Banner 468

Facebook
RSS

التربية الاجتماعية ( 10 ) آداب المزاح

-
هيـــــــــــمــا ( إبراهيــــــــــم عبدالله قاسم )



بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة المؤمنون مع الدرس الخامس والعشرين من دروس تربية الأولاد في الإسلام ننتقل إلى أدبٍ جديد وهو أدب المزاح .




الحقيقة حياة المؤمن ليست قاسية ، فحياته فيها مرح وتفاؤل وسرور وثقة بالله عزَّ وجلَّ ، وفيها تودد وحب ، فالمزاح أحياناً يعبِّر عن هذه ، المزاح والود له فوائد كثيرة فهو يؤلّف القلوب ويجمع الشمل ويجعل الجو لطيفاّ ، فالأب الذي في بيته شيء من المرح وشيء من المزاح وشيء من التسامح يصبح بيته كالجنّة .
أما البيت الذي فيه قسوة وعبوس ومتابعة ونوع من السيطرة القمعيّة ، هذا البيت أمنية الأولاد فيه أن يخرج أبوهم من البيت ، فنجاحك في البيت مؤشّره أن يتمنّى أولادك أن تكون بينهم ، وعدم نجاحك في البيت أن يتمنّى أولادك أن تكون بعيداً عنهم .
كان النبي عليه الصلاة والسلام هو القدوة في البيت كواحد منهم ، في التواضع والعفويّة وعدم التكلُّف وعدم القمع وعدم التصنُّع وهذا يجعل البيت روضة من رياض الجنّة ، أما إذا دخلت السيطرة والقمع والعبوس والجديّة المستمرّة ، فهذا من شأنه أن يُنفّر الأولاد من أبيهم .
في الحقيقة المزاح له آداب ، والمزاح شائع بين الناس جميعاً ولكنّه كالملح في الطعام ـ دققوا في هذا المثل ـ فالملح في الطعام إذا زاد عن حدّه انقلب إلى ضدّه .
قد تحدث أخطار كبيرة بسبب المزاح نحو ضعف الهيبة ، والاستخفاف ، وعدم المبالاة ، والتساهل ، والتسيّب ، وهذه من آثار المزاح السلبيّة ، لكن كالملح في الطعام إذا زاد عن حدّه انقلب إلى ضدّه .


1ـ أول أدب من آداب المزاح عدم الإكثار منه :
أول أدب من آداب المزاح عدم الإكثار منه ، أي لو جلس الإنسان ساعة من الزمن وروى طرفة أو طرفتين فلا بأس ، أما طرفة ووراءها أخرى فليس هكذا ، فإذا أكثرت من المزاح ذهبت هيبتك ، واستخفّ بك ، وأقول مرّة ثالثة فهو كالملح في الطعام إذا زاد عن حدّه انقلب إلى ضدّه.
 (( لست من دَدٍ ولا دَدٌ منّي )).
[ رواه البخاري والبيهقيُّ عن أنس بن مالك رضي الله عنه]
ما معنى : دَدٍ ؟ قال : لست من أهل اللعب واللهو .
المؤمن له مهمّة وهدف كبير في الحياة ، يحمل رسالة وهدفه أن ينشر الهدى ، لذلك يأتي المزاح كواحة في الصحراء فالدرب شاق وطويل من الحرّ والرمال ، لكن إذا اشتدّ التعب فيأتي المزاح كواحة وكاستراحة يرتاح بها المؤمن ليستأنف السير ، فإذا كثر المزاح أصبح الأمر على خلاف ما هو مطلوب ، إذاً :
(( لست من دَدٍ ولا دَدٌ منّي )).
[ رواه البخاري والبيهقيُّ عن أنس بن مالك رضي الله عنه]
أي لست من أهل اللهو والمزاح والفكاهة والضحك .




كيف أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : 
(( إياك والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين . ))
[أحمد عن معاذ رضي الله عنه]
المؤمن يتنعّم ولكن ليس التنعُّم هدفاً استراتجياً من أهدافه ، لا فالهدف الأساسي مرضاة الله عزَّ وجلَّ ويأتي التنعُّم عرضاً ، وهدفه نشر الحقّ وتأدية الرسالة وحمل الأمانة ، لكن يأتي المزاح ليلطّف الجو جو الأسرة ، فالمدرس الناجح يمزح مع طلاّبه ، والطبيب الناجح تجده مرحاً ، وقد تجده يصعب الأمر فيزداد المريض مرضاً ، وتجد طبيباً مؤمناً بالله فيطرح طرفةً ويؤانس المريض ويطمئنه ، ويعطيه أملاً فيشفي الله عزَّ وجلَّ المريض بسبب هذه المعنويّات المرتفعة ، فالمزاح يجب أن يكون في كلِّ مجال ولكن كالملح في الطعام إذا زاد عن حدِّه انقلب إلى ضدّه .
سأذكر لكم نقطة دقيقة ، الحقيقة من السهل أن تكون متطرِّفاً ، ومن السهل أن ترخي العنان ، مزاح وضحك ، ومن السهل أن تكون قاسياً جبّاراً في البيت ، التطرُّف سهل ولكنّ البطولة أن تجمع بينهما ، البطولة أن تكون بين الإفراط والتفريط ، أن تكون بين القسوة والقمع وبين التسيُّب ، كان أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يترامون أحياناً .
أحياناً يكون الثلج متساقطاً وترى الناس يتقاذفون به كنوع من المرح ، لكن إذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال ، فالإنسان العظيم يمزح ويكون مرحاً مع أصدقائه وأهله وأخوانه ، لكن إذا جدّ الجد كان كما قال ابن المقفّع : " فهو الليث عادياً " ، وقد ذكر أحد أصدقائه فقال : " من أعظم الناس في عيني ، وكان رأس ما عظّمه في عيني صغر الدنيا في عينيّه ، كان خارجاً عن سلطان بطنه ، فلا يشتهي ما لا يجد ، ولا يكثر إذا وجد ، وكان خارجاً عن سلطان الجهالة فلا يتكلّم بما لا يعلم ، ولا يماري فيما علم ، وكان أكثر دهره صامتاً ، فإذا جدَّ الجدُّ فهو الليث عادياً ".
أي أنّ الشخصيّة العظيمـة تجدهـا متنوّعـة الجوانب ، ففي البيت وديعاً ، ومع أصدقائه متواضعاً ، وفي حديثه مزح وطرافة ، وإذا جدَّ الجدُّ فهو الليث عادياً ، الجوانب المتنوِّعة من علامات الشخصيّة المتفوِّقة .




النبيُّ عليه الصلاة والسلام نهانا عن الإكثار من المزاح .
سيّدنا عمر رضي الله عنه يقول : " من كَثُرَ ضحكه قلّت هيبته ، ومن مزح استُخِفّ به " .
ولاسيّما المناصب القياديّة ، كالمعلِّم في صفّه ، أو الطبيب في المشفى ، أو المدير العام ، فإذا أكثر من المزاح استخفّ به ، وقلّت هيبته ، وإذا كان القمع هو ديدن هذا الإنسان نفر الناس منه ، فإذا كان الإنسان قاسياً وقمعيّاً تجد في غيبته من يسخر منه ويتندّر به ويكال له الشتم ، أما إذا كان مرحاً وواقعياً وطبيعياً وكانت معاملته فيها لطف ورحمة ، تجد الثناء يكال له كيلاً في غيبته .
الحقيقة أنّ مقياس نجاحك في عملك وفي بيتك لا ما يقال في حضرتك ، فأغلب الناس يجاملون ، ولكن مقياس نجاحك هو ما يقال عنك في غيبتك لا في حضرتك .
الآن أخطر ما في المزاح هو أن يمسّ إنسان أو يجرح إنسان أو يوجّه المزح لشخص فيمزح على شكله ، أو على عاداته ، أو على ما فيه من طباع ، أو على مهنة من المهن ، ولذلك على المعلّمين أن يكونوا دقيقين جداً فليس من حقِّ المدرّس أن يتناول مهنة بالسخرية على الإطلاق ، لأنّه ما من مهنة إلا ويمكن أن توظّف في طاعة الله ، فليس للمعلّم أو المربّي أو الأب أن يتناول حرفةً بالسخرية ، أو أن يتناول إنساناً ويذكر عيباً من عيوبه ، فهذه أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها التي قالت عن أختها وضرتها أنّها قصيرة . فقال النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم : 
(( لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته . ))
[أبو داود والترمذي عن عائشة رضي الله عنها] 
المزاح إذا مسّ إنساناً في شكله ، أو طبعه ، أو بعض صفاته ، أو مسّ فئةً أو جهةً أو قطاعاً ، فالإنسان يعظم عند الله بمعرفته وطاعته ، وقد يوجد بعض الأشخاص الذين يتندّرون من فئات معيّنة ، أو الذين يسكنون أماكن معيّنة ، أو من حرف معيّنة ، وهذا من الجاهليّة ، وقد قال أحد الصحابة لغلامه : يا ابن السوداء ، فقال له النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم :
(( إنّك امرؤٌ فيك جاهليّة . ))
[متفق عليه عن أبي ذر رضي الله عنه]





الإنسان إما رحماني أو شيطاني ، فلمجرّد أن تقدح بإنسان أو بفئة أو بقطاع أو بطبقة أي قدح فهذه جاهليّة جهلاء ، لذلك أنا أقول كلمة : المؤمن لا يمكن أن يضاف على اسمه ولا كلمة ، مؤمن تحبُّه غنياً ، تحبُّه فقيراً ، تحبُّه متعلّماً ، تحبُّه غير متعلّم ، تحبُّه حرفياً، تحبُّه من المدينة ، تحبُّه من الريف ، لأنّه مؤمن وقد هذّبه الإيمان وارتقى وسما به ، وتخلّق بأخلاق الإسلام ، لذلك أيّ كلمةٍ تضاف إلى كلمة مؤمن جاهليّةٌ جهلاء ، فقد قال عليه الصلاة والسلام له :
(( إنّك امرؤٌ فيك جاهليّة . ))
[متفق عليه عن أبي ذر رضي الله عنه]
لأنّه قال له : يا بن السوداء ، لا يكون القدح بلون ولا بجنس ولا بعرق ولا بشعب ولا بأمّة ولا بطبقة ولا بحرفة ولا بأهل حيّ ولا بأهل عشيرة ، وأساس الحروب والمآسي والدماء عبارة عن افتخار لا أصل ولا وجود له ، كان العرب في الجاهليّة يمدُّ أحدهم رجله ويقول : من كان أشرف منّي فليضربها ، فيقوم إنسان فيضربها فتنشب حرب قد تدوم عشر سنين ، الهدف سخيف والسبب أسخف .
يا أخوتي الكرام المؤمن الراقي يعيش عمره كلّه فلا يطعن بإنسان ، ولا بحرفة ، ولا بشعب ، ولا بأُمّة ، ولا بحقبة ، ولا بمذهب ـ فلان كذا ـ ، ولا يطعن بطبقة من الطبقات فالإنسان يعلو بطاعته ويسفل بمعصيته فإذا لم يكن مقياسك قوله تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكـُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(13) ﴾ 
( سورة الحجرات : آية  " 13 " )
 إذا لم يكن مقياسك قوله تعالى : 
﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (13) ﴾ 
( سورة الحجرات )
فأنت لست مؤمناً ، لذلك فالمزاح مندوب بين الأهل والأقرباء ، والأخوة والأصدقاء بشرط ألا يكون فيه أذىً لأحد ، أو استخفاف بمخلوق ، فأحياناً يمزح الأخ مع أخيه فيجرحه ، فيجوز أن يضحك أخوه من ذكائه ويمتصّها ، ولكن أنت هل تعلم ماذا أحدثت في نفسه ؟ أحدثت جرحاً عميقاً ، ولو ابتسم أو جاملك فقد جرحته ، لذلك سنعيد الحديث الشريف عن السيّدة عائشة رضي الله عنها قالت عن أختها صفيّة : إنّها قصيرة . فقال عليه الصلاة والسلام :
(( يا عائِشَة لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ البَحْرِ لَمَزَجَتْه )) .
[ رواه أبو داود والترمذي عن عائشة رضي اللّه عنها ]  
انتبه : فلا تقل : فلان طويل أو فلان قصير أو أسمر أو أبيض أو فلان عيونه صغيرة أو جبهته عريضة فهذا كلّه من كلام الجهلة وقيمة الإنسان بأخلاقه وبعلمه ، وقيمته بمعرفته بالله عزَّ وجلَّ ، فلا تستخفّ بأحد .




مثلاً في مصر إذا أرادوا أن يستخفّوا بإنسان يقولون عنه : صعيدي ، أي من أهل الصعيد ، فهذه من الجاهليّة الجهلاء ، وفي كلّ بلد فيها من المناطق التي يستخفُّ بها ، وهذه عنعنات جاهليّة ما أنزل الله بها من سلطان ، جبلة بن الأيهم عندما داس بدوي على طرف ثوبه قام بضربه على أنفه ضربةً هشّمتها ، فلما اشتكى إلى عمر بن الخطاب قال له : أصحيحٌ ما ادّعى هذا الفزاريُّ الجريح ؟ قال له : نعم ، لست ممن ينكر شيئاً ، أنا أدّبت الفتى أدركتُ حقّي بيدي ، فقال عمر رضي الله عنه : أرضِ الفتى ـ لا بدَّ من إرضائه ـ ما زال ظفرك عالقاً بدمائه ، أو يهشمنّ الآن أنفك وتنال ما فعلته كفُّك ـ ليس من المعقول ذلك فجبلة ملك وهذا الفتى من عامّة الناس ودهمائها وسوقتها ـ فقال له جبلة : كيف ذاك يا أمير ؟! هو سوقةٌ وأنا عرشٌ وتاج !! ـ أي ما هذا الذي تقوله ؟ كيف ترضى أن يخرّ النجم أرضاً ـ فأجابه عمر رضي الله عنه قائلاً : نزوات الجاهليّة ورياح العنجهيّة قد دفنّاها وأقمنا فوقها صرحاً جديداً ، وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيداً ، فقال له: كان وهماً ما جرى في خلدي أنني عندك أقوى وأعزّ ، أنا مرتدٌ إذا أكرهتني ، فقال له عمر رضي الله عنه : عنق المرتدّ بالسيف تحز عالم نبنيه كلُّ صدعٌ فيه بشبا(أم بشذى) السيف يداوى ، وأعزُّ الناس بالعبد وبالصعلوك تساوى .
أخواننا الكرام ما الذي يجمع الناس حولك ؟ نزاهتك ، احترامك للناس ، أدبك معهم جميعاً ، إذا لم تعامل أي إنسان بمقياس واحد مقياس التقوى فلست مؤمناً فقد قال الله تعالى :
﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (13) ﴾
( سورة الحجرات ) 
إذا أدخلت مقياس المال فأنت لست مؤمناً ، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم :
(( من جلس إلى غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه .))
[البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود]
إذا كنت تعامل الأقوياء معاملةً خاصّة فأنت بذلك لم تعرف الله عزَّ وجلَّ ، لم تر القوي ، ولم تر أقوى الأقوياء .




قال تعالى :
(( أنا الله لا إله إلا أنا مالك الملوك ، و ملك الملوك .)) 
[غريب من حديث مالك مرفوعاً تفرد به علي بن معبد عن وهب ابن راشد]
إن رآك مالك الملوك تعامل الأقوياء باحترام ولكن من دون نفاق ، وتعامل الأغنياء باحترام ولكن من دون تملُّق ، إذا لم يكن مقياسك : 
﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (13) ﴾ 
( سورة الحجرات ) 
أنت بعيد عن الدين وعن أخلاق المؤمنين .
أخواننا الكرام حدّثني أخ كان معاراً لبلد عربي ليُدرّس بها ، وفي المدرسة صبّ كأساً من الشاي ليشربه فقرع جرس الدرس ، فوضعه كما هو وكاد ينطلق إلى غرفة الصف رأى آذِناً يقوم بمسح الأرض ، فقال له : خذ هذا الكأس واشربه ، وهذا الفَرَّاش من بلاد شرق أسيا ، فلفت نظره هذا العمل ، وفي اليوم التالي قال للأستاذ : لماذا قدّمت لي هذا الكأس فأنا هنا منذ سنتين ولم يسلّم عليّ أحد ولا قدّم لي شيئاً ـ فهو آذن أو فرّاش من الطبقة الدنيا ومن بلد فقير ـ ؟ فقال له : والله ديني يأمرني بذلك ، فقال له : أتسمح لي أن أجلس معك في جلسة لكي أتعرّف على دينك ، وقد كان مذهبه هندوكياً ، عابداً للصنم ، وقد دعاه إلى جلسة وكانت لغته الإنجليزيّة ضعيفة فدعا أخاً ذا لغة أقوى ، فقال الفرّاش له : أنا أحمل بكالوريوس في الكيمياء ، فتعجّب الأخ من ذلك وفي الأسبوع التالي أحضر معه معجماً باللغة الإنجليزيّة وافتعل أنّ ابنه سأله عن قضيّة كيميائيّة وطلب إليه أن يشرحها له واتضح فعلاً أنّه حاصل على البكالوريوس ، لمدة شهرين في كلّ أسبوع جلسة حتى دلّه على الله وأقنعه بالدين فأسلم هو وخمسة من أصدقائه ، والسبب هو كأس من الشاي .
احترم الآخرين فهذا الفرّاش يحمل بكالوريوس في الكيمياء ، ومن فقره يعمل فرّاشاً ، وعندما احترمته هديته إلى الله عزَّ وجلَّ ، فأنا لا أعتقد أنّ مؤمناً لديه ذرّةٌ من الإيمان ويحتقر إنساناً ، فحينما تحتقر أحداً فأنت لست مؤمناً ، فما هذا الإيمان ! هذا عبد لله لو عرف الله لارتقى عند الله إلى أعلى عليين .
الذي أُحبّ أن أركّز عليه إيّاك ثم إيّاك ثم إيّاك أن تمزح مزاحاً يجرح إنساناً ، فإذا كنت معلّماً وذكرت أنّ المهنة الفلانيّة كل من يعمل بها من الأراذل وكلّهم لصوص ، وكان عندك في الصف تلميذ يعمل أبوه في هذه المهنة ، فماذا حدث لهذا الابن ؟ لقد صغّرته وعقّدته ، فهل أنت متأكد أنّ كلّ أصحاب هذه المهنة أرذال ولصوص ؟ هذا كلام فيه جهل .




حدّثنا أستاذ لنا في الجامعة فقال : التعميم من العمى ، فإذا عممت فأنت جاهل ، حينما تعمم فأنت جاهل كأن تقول : أهل المدينة الفلانيّة كلّهم كاذبون ، فما هذا الكلام !! ومن قال لك ذلك ؟ هذا هو الجهل بعينه فإيّاك أن تعمم ، كل بلد فيها أناس طيبون ومستقيمون وفيها ورعون وأناس ذوو أخلاق عالية ، وكذلك فيها أناس ذوو أخلاق سيّئة ، فالتعميم على مدينة أو جهة أو منطقة أو طبقة أو على أصحاب حرفة هذا من الجهل والتعميم من العمى ، حينما تعمم فأنت أعمى ولا تعرف ، فلا تتناول أحداً بسخريتك فهذا ليس من أخلاق المؤمن .
أنت مؤمن وكلُّ مخلوقٍ عبدٌ لله يرقى عند الله بطاعته ، فأنا لا أنسى ولن أنسى قوله صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه وهو سيّدنا سعد بن أبي وقاص : 
(( ارمِ سعد فداك أبي وأمّي . ))
[متفق عليه عن علي رضي الله عنه]
هذا ليس بقليل ، النبيّ لم يفد أحداً بوالديه إلا سيّدنا سعد ، وإذا دخل سيّدنا سعد كان يقول : 
(( هذا خالي فليرني امرؤ خاله .))
[الترمذي عن جابر بن عبد الله]
أي أنّ المحبّة والود يفوق حدّ الخيال ، فلما توفّي النبيّ عليه الصلاة والسلام ـ انظروا إلى هذا الفهم العميق ـ قال سيّدنا عمر رضي الله عنه : يا سعد لا يغُرنّك أنّه قد قيل خال رسول الله ، فالخلق كلُّهم عند الله سواسية ، ليس بينه وبينهم قرابة إلا طاعتهم له ، أنت بطاعتك لله ترقى إلى أعلى عليين ، وتصبح فوق الناس أجمعين :
﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (13) ﴾ 
( سورة الحجرات ) 
لا نرقى ، ولا نتقدّم ، ولا يرضى الله عنّا إلا إذا حكّمنا بيننا مقياساً واحداً وهو التقوى .




الآن نماذج من المزاح المؤذي : 
(( لا يأخُذنّ أحدُكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً ، ومن أخذ عصا أخيه فليرُدّها )).
[رواه الترمذي عن عبد الله بن السائب عن أبيه عن جدّه]
في بعض الأحيان يمزح أحدهم مزاحاً ثقيلاً ، كأن يخفي سواراً أو غرضاً من الأغراض ، أو يخفي حذاء طفل وهو يقوم بالبحث عنه وأبوه ينتظره في السيّارة وهو غاضب ، هذا ليس من المزاح ، والنبيّ نهى عن مثل هذا المزاح ، أو الجندي بالثكنة العسكريّة يخفون عنه سلاحه ، وفي ذلك محاكمة عسكريّة ميدانيّة فيمكن بسبب ذلك أن يصاب بالجلطة ، فهذا ليس من المزاح كأن تخفي عنه سلاحه أو تخوّفه فهذا نوع من المزاح المؤذي ، وقد نهى عنه النبيّ .
المزاح أحياناً أن يكلّفك أحد الأشخاص بقضيّة ما ويكون عصبي المزاج ، فيقول لك : هل أنهيت هذه القضية ؟ فتقول له : لا لم أنته منها وقد نسيتُ ، فيقوم منفجراً ، وقد تكون أنهيتها وقدمتها له جاهزة ولكنّك أحببت أن تراه وهو منفجر أو غاضب أمامك ، فلماذا تفعل مثل ذلك ؟ ما دمت قد أنجزت القضية قل له : نعم لقد أنجزتها ، فيشكرك على عملك ، أما بعملك السابق جعلته ينفجر ويتكلّم بكلمات قاسية ، وربما بكلمات قبيحة ، وبعد ذلك قلت له : لا تصدّق فهي جاهزة وتفضّل بأخذها ، فهذا من المزاح الثقيل ، فإذا كان الإنسان عصبي المزاج وطلب إليك خدمة ما وكنت قد أنجزتها فأخبره بأنّك قد أنجزتها .
أو إذا تكلّم بالهاتف فقلت له : من المتكلم ؟ يقول لك : خمِّن ، ما هذا الكلام ؟ أحياناً يكون المخاطب مشغولاً أو مضطراً أو مستعجلاً قل له : على الفور أنا فلان .
حدّثنا أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أنّهم كانوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنام رجلٌ منهم ، فانطلق بعضهم إلى حبلٍ معه فأخذه ، ففزع ، فقال عليه الصلاة والسلام :
 ((  لا يحلُّ لمسلمٍ أن يُروّعَ مسلماً )).
 [رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي ليلى]
النبي لم ينْهَنا فقط عن ترويع مسلمٍ ، بل نهانا أيضاً عن أن نحمّر وجهه فقال :
 ((  لا تحمّروا الوجوه )).
[ورد في الأثر]
لا تحرجه أو تضعه في موقف حرج ، قال لك : بالأمس كانت الحرارة ستاً وخمسين ، غلط في درجتين أو ثلاث ، فتجاوز عن هذا الخطأ ، أما أن تقول له : غلطان ، دائماً تجد أشخاصاً يحبّون أن يفنّدوا الأقوال ، ويحرجون من أمامهم ، أما إذا كان الكلام بالعقيدة فهنا يجب عليك أن تردّ وتتكلّم ، فكلّ ما يمسّ العقيدة أو يمس الحديث الشريف أو تفسيراً لآية ، أما إذا كانت القضيّة لا علاقة لها بالعقيدة أو الحديث أو التفسير أو السنّة ، فتجاوز عنها ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام : 
((  لا يحلُّ لمسلمٍ أن يُروّعَ مسلماً )).
 [رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي ليلى]




يوجد مزاح شديد القسوة ، كأن يختفي أحدهم عنك ثم يظهر فجأةً أمامك ، بعض الأشخاص تُحدث الصدمة له أمراضاً وبيلة ، فهل تصدّقون أنّ بعض أسباب السرطان ضعف جهاز المناعة ، ومن أسباب ضعف جهاز المناعة الشدّة النفسيّة ـ الخوف ـ فأحياناً الخوف المفاجئ يسبب ضعفاً في جهاز المناعة فيصاب بالسرطان ، أحدث بحثٍ في مرض السرطان هو حينما يضعف جهاز المناعة لدى الإنسان تنمو الخلايا نمواً عشوائياً ، فما الذي يقوم بضبط نمو الخلايا ؟ جهاز المناعة ، وهذا الجهاز تضعفه الشدّة النفسيّة أي الخوف ، فقمت بإخافته ، والإنسان أحياناً يخاف خوفاً شديداً :
((  لا يحلُّ لمسلمٍ أن يُروّعَ مسلماً )).
 [رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي ليلى]
قد يكون أحد الأشخاص لا يجيد السباحة فيلقوه في مكان عميق ، فيجوز أن يخاف أو يعلو صوته بالصراخ فأيضاً هذا مزاح منهيٌ عنه ، الشيء الذي يخيف ويحدث صدمة منهيّ عنه ، دققوا في هذا الحديث الشريف في يوم الخندق كان زيد بن ثابت ينقل التراب مع المسلمين فأصابته سنةٌ من النوم ـ أي نعس ـ فجاء عمارة بن حزم فأخذ سلاحه دون أن يشعر فنهاه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك ، فهذا ليس مزاحاً بأن يسحب له سلاحه .
رجلٌ أخذ نعل رجلٍ غيّبهـا وهو يمزح ـ أي أخفاها ـ فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال عليه الصلاة والسلام :
 (( لا تُروّعوا المسلم ، فإنّ روعة المسلم ظلمٌ عظيم )).
 [رواه البزّار والطبراني وابن حبّان عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه]
أحياناً اثنـان في السفر يخفي أحدهم للآخر جواز سفره ، وأخطر شيء جواز السفر أو هويّته وبإخفائك له فقد أهلكته ، وكذلك محفظته يكون بها كلّ وثائقه الرسميّة ، فإخفاء الحاجات الخطرة ليس من المزاح ، هذا من المزاح المنهي عنه .
أما الذي يستهزئ مازحاً ، ويغتاب مازحاً ، ويُحقِّر مازحاً ، وينتهك حرمة الدين مازحاً فإنّه آثمٌ وواقع في الحرام من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم .


2ـ من آداب المزاح تجنّب الكذب وقول الزور :
الآن يوجد لدينـا أدب آخر من آداب المزاح وهو تجنّب الكذب وقول الزور فالنبيّ عليه الصلاة والسلام كان يمزح ولا يمزح إلا حقاً .
(( ويلٌ ـ أي الهلاك ـ للذي يحدّث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب ، ويلٌ له ويلٌ له )).
 [رواه أبو داود والترمذيّ والدارمي عن بُهزُر بن حكيم عن أبيه عن جدّه]
أي أنّ إضحاك الناس عن طريق الكذب لا يجوز ، أحياناً يكون لدى بعض الناس خيال مبدع فيقوم بتركيب وتلفيق قصّة من عنده ويدخل فيها شخصاً من الحاضرين أو غائباً ، ويقوم برواية هذه القصّة بحيث توحي إليك بأنّه صادق فيُضحك الناس ، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول : 
(( ويلٌ للذي يحدّث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب ، ويلٌ له ويلٌ له .))
[الترمذي وأبو داود والدارمي عن بهزر بن حكيم عن أبيه عن جده]
يوجد شيء آخر في هذا الحديث وهو من أخطر الأحاديث ، يقول عليه الصلاة والسلام :
((  كبُرت خيانةً أن تُحدّث أخاك حديثاً هو لك به مصدّق ، وأنت له كاذب )).
 [ رواه أبو داود عن سفيان بن أسيد الحضرمي رضي الله عنه]
المستمع لك بريء ومصدّق لك ، وأنت تقوم بالكذب عليه ، أخواننا الكرام يقول صلّى الله عليه وسلّم : 
((المؤمن يطبع على كل خلق إلا الكذب والخيانة .))
[البزار عن سعد بن أبى وقاص]
إذا كذبت فلست مؤمناً ، وإذا خنت فلست مؤمناً ، يمكن للمؤمن أن يقع في كثير من الأخطاء إلا الكذب والخيانة ، كأن يكون مؤمناً عصبي المزاج ، أو انطوائياً ، أو اجتماعياً ، أو مؤمناً أنيقاً ، أو مؤمناً أقلّ أناقة ، أو مؤمناً ينفق الأموال بغير حساب ، أو مؤمناً أقلّ إنفاقاً ، كلّ هذا على العين والرأس إلا أن تكذب أو أن تخون :
((المؤمن يطبع على كل خلق إلا الكذب والخيانة .))
[البزار عن سعد بن أبى وقاص]
 ((  كبُرت خيانةً أن تُحدّث أخاك حديثاً هو لك به مصدّق ، وأنت له كاذب )).
 [ رواه أبو داود عن سفيان بن أسيد الحضرمي رضي الله عنه]
بالطبع من باب المزاح لاحظت أنّ بين طلاّب المدارس من يحدث الطفل بأشياء ليس لها أصل ولا وجود ، أو أن تكون ذاهباً للنزهة فتقول له : لن نأخذك معنا ، فيبكي الطفل ويُسَرّ أنّه أبكاه وقام بإزعاجه ، هذا كلّه من المزاح المنهي عنه ، أو يأتيه هاتف كاذب أو يسمع خبراً سيّئاً أو يكتبون نعوة ويطبعونها لأحد الأشخاص وهو ليس بميّت ، أو أحد الجنود أراد أن يأخذ إجازة فيقوم بطبع نعوة كاملة بأن جدّه قد مات ، فموضوع الوفاة المزاح فيه قبيح جداً  .



بالمناسبة بالزواج والطلاق والعتق هذه الثلاثة مزحُهنّ جد وجدّهُنّ جد ، كأن يقول : والله إني أفكر أن أتزوّج فلانة ، مازحاً ، أعوذ بالله من ذلك ، فلانة عندما بلغها الخبر لم تنم ليلتها من فرحها ، وهي تنتظر وتقول الآن سيأتي أو غداً ، وأنت تمزح .
وإذا طلّق مازحاً فقد وقعت الطلقة وحسبت عليه وهو مازح ، فإيّاك أن تقترب من هذه الموضوعات الثلاثة ، أو أن تقـول إنّ فلاناً سيخطب فلانة ، والقصّة لا أصل لها ، يحدث للإنسان بذلك حالة تسمى الإحباط ، فقد بلغ هذه المرأة أن فلاناً وهو شخص جيّد سيقوم بخطبتها ، فهذه المسكينة تفرح من هذا الخبر ولا تنام من شدة الفرح وتنتظر يوماً ويومين وأسبوعاً وأسبوعين ولم يأت أحد لخطبتها ، وبعد ذلك يقولون لها : هل صدّقتِ ما قلناه لقد كنا نمزح معك ، هذا المزاح قبيحٌ بل من أقبح أنواع المزاح إذا تناول الخطبة أو الطلاق أو العتق .
قد يقول صاحب العمل لصانعه سوف أجعلك شريكاً لي في المستقبل ، فيقول الصانع لأبيه فيمدحه الأب ويقول : جزاه الله كلّ الخير فهذا الإنسان صاحب أصل ، وهم بذلك قد دخلوا بالأمل ، وتكون هذه الكلمة كلّها مزاحاً فلا شريك ولا هم يحزنون .
لا تمزح مزاحاً كأن تقول : سأجعلك شريكاً لي أو سأقوم بتوظيفك في العمل ، أو سأمنحك منحة ، فهذا كلّه لا يجوز .
(( لا يؤمن العبدُ الإيمان كلّه حتى يترُكَ الكذب في المِزاحةِ والمراءِ وإن كان صادقاً )).
 [رواه الإمام أحمد والطبرانيّ عن أبي هريرة رضي الله عنه]
لا مزاح مع كذب ، فهذا ليس في الدين ، تمزح من دون كذب ، كان يمزح ولا يمزح إلا حقاً ، لذلك المؤمن كلمته مسجّلة ، كلمته تصريح رسمي لأنّه لا يكذب أبداً ، ووعده قطعي ، وبشارته صحيحة ، وتحذيره صحيح ، وتصريحه صادق لأنّه مؤمن ، فإذا مزح استُخِفَّ به ، وهذه الكذبة التي يطلقون عليها كذبة نيسان ليس لها أصل عندنا فهي مستوردة من أوروبا .




الآن كيف كان يمزح النبيّ عليه الصلاة والسلام :
 ((  رجل من أهل البادية كان اسمه زاهراً ، وكان يُهدي إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هديّةً من البادية ، والنبيّ كما علّمنا كان يقبل الهديّة ويرُدُّ عليها ، فيُجهّزه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يخرج إلى البادية ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : إنّ زاهراً باديتُنا ونحن حاضره . وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحبّه ، وكان زاهرٌ رجلاً دميماً فأتاه النبيّ يوماً وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره . فقال زاهر: من هذا ؟ أرسلني ـ أي اتركني ـ فالتفت زاهر فعرف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، فجعل لا يألو ما ألصق ظهره في صدر النبيّ . فقال : من يشتري هذا العبد ؟ فقال : يا رسول الله إذا تجدُني كاسداً. فقال عليه الصلاة والسلام : ولكنّك عند الله لست بكاسد ..)).
 [رواه الترمـذيّ عن أنسٍ رضي الله عنه]
أنت عند الله غالٍ ، فإذا أحضر لك أحد من الريف هديّة فأنت مقابل ذلك قدم له علبة من الحلوى ، فقد قدّم لك هديّة فأصبحت بينكما مودّة فبادر أنت بالردّ عليها ، هو عنده الفاكهة بكثرة ومبتذلة ويهمّه علبة من الحلوى مثلاً ، فهو قدّم لك فاكهة وأنت قدّم له من الحلوى الموجودة في المدينة ، " إنّ زاهراً باديتُنا ونحن حاضره " ، هذا من نوع المداعبة أي هو يجلب لنا من حاجات البادية ونحن نؤمّن له حاجات من المدينة .
((  إنّ زاهراً باديتُنا ونحن حاضره )).
 [رواه الترمـذيّ عن أنسٍ رضي الله عنه]
هذا من نوع المداعبة ونوع من المزاح اللطيف .
فقال : يا رسول الله إذا تجدُني كاسداً ـ أي لن يشتريني أحد ـ فقال عليـه الصلاة والسلام : ولكنّك عند الله لست بكاسد ـ أنت عند الله غالٍ ـ هذا هو مزاح النبي اللهمّ صلِّ عليه .




من المزاح ما يذوّب الإنسان وهو كثير اللطف فيقرّب القلوب ، ويحبب الناس ببعضها ، والآن يحضرني بعض هذه النماذج :
(( قال أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك وهو في قبّةٍ من أدم صغيرة - أي من جلد - فسلّمتُ فردَّ عليّ السلام وقال : ادخُل . فقلت : أَكُلّي . قال : نعم كُلُّك ادخل )).
 [رواه أبو داود عن عوف بن مالك الأشجعي]
الصحابي بدأ بالمزاح ، فمزح معه النبي صلّى الله عليه وسلّم .
(( أتى رجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلـّم يستحمله - أي يطلب منه دابّة - فقال عليه الصلاة والسلام : إنّي حاملك على ولد النّاقة . فظن الصحابي أنّه شيء صغير ، قال : يا رسول الله ما أصنع بولد النّاقة ؟ قال : وهل يلد الإبل إلا النوق ؟ )) .
 [رواه الترمذيّ وأحمد عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه]
ولد الناقة : أي الجمل .
(( أنّ امرأةً يقال لها أمُّ أيمن الحبشيّة جاءت إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالت : إنّ زوجي يدعوك . فقال : من هو ، أهو الذي في عينه بياض ؟ فقالـت : ما بعينه بياض!! . فقـال : بلى بعينه بياض . فقـالت : لا والله . فقال عليه الصلاة والسلام : ما من أحدٍ إلا بعينه بياض )).
 [رواه ابن بكّار عــن زيد بن أسلم]
هل يوجد أحد ليس في عينه بياض ؟!! 
(( أتت عجوزٌ إلى النبيّ صلّى الله عليـه وسلّم فقالت : يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنـّة . فقال : يا أُمّ فلان إنّ الجنّة لا يدخلهـا عجوز . قـال : فولّت وحزنت . فقال عليه الصلاة والسلام : أخبروها لا تدخلها وهي عجوز إنّ الله تعالى يقول :إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً(35)فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً(36)عُرُباً أَتْرَاباً(37) ( سورة الواقعة ) )).
 [رواه الترمذيّ عن الحسن البصريّ رضي الله عنه]
هذا نموذج من مزاح النبي اللهمّ صلِّ عليه ، فقد كان يمزح مع أصحابه ، ويلطّف الأجواء ، والمزاح أحياناً ينشّط المجلس ، ولكن أن يكون حقاً ، وثانياً أن لا يؤذي إنساناً أو فئة أو طبقة أو أصحاب حرفة .
أتألم أحياناً إذا رأيت مزاحاً قاسياً ، إذا ذهبوا مثلاً إلى نزهة فالمزاح القاسي ، والكلمات النابية ، وأحياناً تبادل الشتائم ، أو تبادل الأوصاف غير اللائقة فهذا ليس من أخلاق المؤمن .
(( لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ)) .
[أحمد عن أنس بن مالك]
على كلٍ إذا كان الإنسان أحياناً في بيته وفي عمله ومع أصدقائه مرحاً ومازحاً كما مزح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فهذا حسن ، وكذلك يوجد نوع من المزاح بابتسامة وبطلاقة الوجه والتعليق اللطيف فهذا مما يجعل الجو مريحاً .




تجد بعض أصحاب الأعمال دوام الموظفين عنده ثماني ساعات فإذا كان صاحب العمل مرحاً معه تجده يعمل بنشاط ولا يتعب ، فما دام الجو مريحاً في العمل بمزاح بسيط ، أو مداعبة أو تعليقات لطيفة بين ربِّ العمل والعامل أو الموظّف تجده سيعمل بنشاط ويؤدّي عمله أضعافاً مضاعفة ، أما جو الكهنوت وجو العبوس والقسوة ، وجو اللوم الدائم والنقد والتجريح كأن يقول للعامل : إنّك لا تفهم ، فهذا ليس بالجو المريح للعمل ، هذا الجو يبعد العامل عن تأدية واجبه ، فإذا كان للإنسان عمل فيجب أن يكون لطيفاً ، وإذا كان رباً للعمل فيجب أن يكون ألطف ، لأن سعادة الإنسان تأتي من سرعة التكيُّف .
سمعت عن مدرّس كبير في العمر ووقور وأديب كبير وشاعر ، ولسبب أو لآخر جعلوه مدرّساً في أحد المدارس الثانويّة ، والمدير في عمر ابنه وذو عقل خفيف ، أراد أن يزعجه فقرر له برنامجاً للدوام بحيث يكون بعد الظهيرة ، وهذا الوقت للتعليم يكون متعباً ومرهقاً ، فهذا الوقت وقت للنوم ، يكون الطلاّب قد بدأت استراحتهم ، فهذا المدرّس الذكي لم يتكلّم بكلمة واحدة ، جاء بعد فترة وقال للمدير : والله إنّ هذا التعليم جيّد جداً ، نذهب للسوق ونتسوّق ونأخذ أطيب الفاكهة والخضراوات من أعلى الصناديق ثمّ نعود إلى البيت مطمئنين ونأتي إلى المدرسة ، لكن المدير لا يريد ذلك فانزعج كثيراً ، وكان قصده أن يزعج الأستاذ بهذا الدوام الصعب فلم ينزعج ، بعد حين افتعل مناسبة وقام بتغيير البرنامج وجعل دوام هذا الأستاذ في الصباح فلم ينطق بكلمة ، وبعد أسبوع قال للمدير : والله التعليم جيّد جداً مثل الموظفين ، نداوم ثم نأتي ظهراً نتناول طعام الغذاء ثم ننام ، فلم يستفد المدير من إزعاجه بشيء ، ولم يتبقّ من الحالات إلا حالة كثيرة الصعوبة وهي تدريس ساعة وراحة ساعة ، أي فراغات بين الحصص ، وهي أصعب شيء بالتعليم ، فإذا انتهت الحصة الأولى الساعة التاسعة فالحصّة الثانية في الحادية عشرة ، ماذا تفعل في الساعة العاشرة التي بينهما ؟ لا تستطيع الذهاب للبيت والعودة ، فليس لك سوى الانتظار في غرفة المدرسين ، فأعدّ له برنامجاً مليئاً بالنوافذ والفراغات ، وبعد فترة قال له الأستاذ : والله التعليم جميل جداً ، فلن تجد مهنةً كمهنة التعليم ساعة للعمل وساعة للراحة .
الإنسان الذكي يمتص الإجراءات الموجّهة ضدّه ويحولها إلى طرفة ، أما من يظن أن كلّ شيء ضدّه ويخرج عن طوره فهو بذلك يعذّب نفسه ويشقيها ولا يستفيد شيئاً ، وهذه يسميها العلماء التكيُّف ، فالإنسان الذكي الموفّق المؤمن يتكيّف مع الظرف .




أكثر شيء أحبّ أن أُركّز عليه في هذا الدرس أن لا يؤذي المزاح الإنسان ، فلا شكله أو طولـه أو أهله ولا صنعة والده ولا حرفة معيّنة ولا فئة ولا طبقة اجتماعيّة ولا إقليم مدني أو ريفي فهذا كلّه باطل في الدين ، فإذا كانت هذه موجودة فيك فهي عنعناتٌ جاهليّة ، هذه جاهليّةٌ جهلاء ، وهذا يتناقض مع الدين ، فأنت كمؤمن توقّر الناس جميعاً ، فلا يوجد سوى مقياس واحد علمهم وعملهم فقط ، وإذا لم نحكّم هذا المقياس كنا متخلّفين ، وأساس العالم المتخلّف أن تحكمه مقاييس غير صحيحة ، كمقاييس القرابة ، والعشائريّة ، والقبليّة ، والإقليميّة ، كل ذلك يفتت المجتمع ، ولا يرقى بالمجتمع إلا قيم أصيلة تستنبط من كتاب الله :
﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (13) ﴾
( سورة الحجرات )
كذلك قوله تعالى : 
﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ(9) ﴾ 
(سورة الزمر : آية " 9 " )
إن شاء الله في درس قادم ننتقل إلى أدب مهم جداً هو أدب التهنئة ، وأدب التهنئة أدبٌ يجب أن نحرص عليه في مناسبات الزواج ، أو النجاح ، أو في تأسيس عمل ، أو نيل شهادة ، فهذا أخوك له حق عليك ، يحب أن تزوره ، وأن تهنّئه ، وأن تكرّمه ، وأن تقدِّم له هديّة حتى يبقى المجتمع كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضاً .


والحمد لله رب العالمين




اترك تعليقك

    Powered By Blogger