Banner 468

Facebook
RSS

التربية الاجتماعية ( 3 )

-
هيـــــــــــمــا ( إبراهيــــــــــم عبدالله قاسم )




بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الكرام مع الدرس الثامن عشر من دروس تربية الأولاد في الإسلام ، ولازلنا في مسؤولية الآباء عن تربية أولادهم التربية الاجتماعية وقد بدأنا بمجموعة آدابٍ متعلقةٍ بالأبوين وبالأرحام واليوم ننتقل إلى الآداب المتعلقة بحسن الجوار .


       

يا أيها الأخوة ، لا يقبل من الجار أن يكفّ أذاه عن جاره فقط ، ولا أن يدفع عنه بيده أو بجاهه أذى غيره ، بل يدخل في حسن الجوار أن يجامل الجار بنحو التعزية عند المصيبة ، والتهنئة عند الفرح ، والعيادة عند المرض ، والنصح له وإكرامه .
إذاً كفّ الأذى أن تكف أذاك عن جارك هذا موقف سلبي ، أو أن تكُفّ أذى غيرك عنه إما بيدك أو بجاهك هذا أيضاً لا يُعدّ فقط من حسن الجوار ، حسن الجوار أن تعزيه إذا أصابته مصيبة ، وأن تهنئه إذا أصابه خير ، وأن تعوده إذا مرض ، أن تقرضه ، أن توصله ، أن تزوره ، أن تبدأه بالسلام ، وأن تنصحه في دينه ودنياه ، وأن تكرمه ، إضافة إلى كفّ الأذى عنه ، وكفّ أذى الآخرين بيدك أو بجاهك ، هذا مجمل ما يعني حسن الجوار .
(( من أغلق بابه دون جاره مخافةً على أهله وماله فليس ذلك الجار بمؤمن )).
[كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال ،  ‏الخرائطي في مساوي الأخلاق عن ابن عمرو‏‏]
لمجرد أن تخاف من جارك فهذا الجار ليس مؤمناً ، الجار المؤمن تأمنه على مالك وعلى عرضك ، إذا يوجد خوف أو قلق ففي ذلك مشكلة .

(( من أغلق بابه دون جاره مخافةً على أهله وماله فليس ذلك الجار بمؤمن )).
[كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال ،  ‏الخرائطي في مساوي الأخلاق عن ابن عمرو‏‏]
(( َلَا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ )) .
[أحمد عن أنس بن مالك]
قال صلّى الله عليه وسلّم : 
أتدرى ماحقّ الجار ؟ إذا استعان بك أعنته ، وإن استقرضك أقرضته ، وإن افتقر عدت عليه ، وإن مرض عدته ، وإن أصابه خير هنّأته ، وإذا أصابته مصيبةٌ، عزيته ، وإذا مات اتبعت جنازته، ولا تستطل عليه بالبناء  فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، وإذا اشتريت فاكهةً فأهدِ له منها وإن لم تفعل فأدخلها سراً ، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ ولده ، ولا تؤذه بقتارِ قدرك إلا أن تغرف له منه . هذا الحديث أصل في الإحسان إلى الجار .
لكنّ الشيء الذي يلفت النظر أن النبي صلّى الله عليه وسلم عدَّ إكرام الجار من لوازم الإيمان : 
 ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ)).
                                         [ رواه الشيخان عن أبي هريرة ]


       

أيها الأخوة الكرام ، الجيران لهم حقوقٌ ثلاثة على تباين ، فأيُّ جار ولو كان غير مسلمٍ ، ولو كان مجوسياً ، له عليك حقُ الجوار ، لكنّ الجار المسلم له عليك حقّان حقُّ الجوار وحقُّ الإسلام ، لكنّ الجار القريب المسلم له عليك ثلاثة حقوق : حقُّ الجوار وحقُّ الإسلام وحقُّ القرابة . 
(( الجيران ثلاثة ، جارٌ له حق وهو المشرك ، وجار له حقّان وهو المسلم ، حقُّ الجوار وحقُّ الإسلام ، وجار له ثلاثة حقوق مسلمٌ له رحم ، فله حقُّ الجوار والإسلام والرحم )).
 [روى الطبراني عن جابر رضي الله عنه]
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول مجاهد : كنت عند عبد الله بن عمر وغلامٌ له يسلخ شاةً ، فقال : يا غلام إذا سلخت الشاة فابدأ بجارنا اليهودي ، حتى قال ذلك مراراً لأني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول :
((  مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ  )).
[ متفق عليه عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا] 
تقول السيدة عائشة : " لا تبالي المرأة إذا نزلت بين بيتين من الأنصار صالحين إلا أن تنزل بين أبويها ".
أي لقدسية الجار ، امرأة الجار كأنّها بنت أو أخت ، أي إذا الإنسان تجاوز الحد مع أيّةِ امرأة فمع امرأة الجار الإثم مئة ضعف أو ألف ضعف أحاديث بهذا المعنى .
قال : من الإحسان إلى الجار أن تبذل له ما يطلب من نحو النار والماء والملح ، وأن تعيره بعض الأواني وحاجات المنزل كالقدر والصفحة والسكين والقدوم والغربال وحمل مفسرون كثيرون قوله تعالى :
﴿ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7) ﴾ 
( سورة الماعون آية "7 " ) 
أي يمنعون هذه الحاجات عن جيرانهم ، الحقيقة أن الإنسان الآن أصبح في تدابر وقطيعة ، ولكن أحياناً تكون الأسرة منعقدة على الطعام ويلزمهم نصف ليمونة ، أو شيء من الحاجات الأساسية بكمية قليلة ، أو رغيف من الخبز أحياناً ، أو وعاء ، فإذا وجدت المودة بين الجيران فلا توجد مشكلة ، أحياناً يكون عند الجيران ضيفٌ فتحتاج  لطاولة طعام مثلاً .


       

الإنسان إذا كانت علاقاته مع الجيران متماسكة ومتينة جداً هو في بحبوحة كبيرة جداً لأنّ الحياة أخذ وعطاء ، دين ووفاء ، فإذا الإنسان كانت علاقاته مع الجيران طيبة جداً ، أحياناً يضطر يلبس ثيابه ويخرج من المنزل حتى يشتري ليمونة ، فهناك أطعمة تحتاج إلى الليمون ، وأحياناً يحتاج إلى سلم أو منضدة أو كرسي ، جاءه ضيوف أكثر من عدد الكراسي الموجودة لديه فيحتاج إلى كرسيين ، إذا كان هناك مودة ومحبة تجدهم متعاونين ، أنا أعرف الجيران أحياناً يصبح البيتان بيتاً واحداً إذا كان عنده لازمة أو فرح يفتحون البيتين على بعض .
هذا الدرس في الحقيقة للصغار والكبار ، فنحن نتعلّم ككبار مع الصغار ، فالدرس عن تربية الأولاد لكننا إذا عرفنا حقوق الجار يمكن أن نلقنها إلى صغارنا .
كان لعبد الله بن المبارك وهو من كبار العارفين بالله جار يهودي ، أراد هذا الجار أن يبيع بيته ، فقيل له : بكم تبيع البيت ؟ قال : بألفين ، قيل له : دارُك لا تساوي إلا ألفاً واحداً فلم طلبت الألفين ؟ قال : صدقتم لكن ألفاً للدار وألفاً لجوار عبد الله بن المبارك .
يريد سعراً عالياً لبيته بسبب جاره ، هذا اليهودي جار كريم ، طلب ألفاً لبيته وألفاً ثمن جيرة عبد الله بن المبارك ، يقولون أُخبر ابن المبارك بذلك ، فدعا جاره وأعطاه ثمن الدار وقال : لا تبعها .
لولا ما لقيه اليهودي من ابن المبارك من حسن الخلق وكرم المعاملة لما وقف من بيع الدار هذا الموقف .
رووا أيضاً عن عبد القادر الجزائري رحمه الله تعالى كان له جار مسلم ولكنَّه فقير ، اضطر أن يبيع بيته فطلب فيه ثمناً ، دفعوا له أقل فغضب قال : والله أنا لا أبيع جيرة الأمير بهذا المبلغ ، أيضاً الأمير بلغه ذلك ، ودفع لجاره ثمن بيته وقال : ابقَ جارنا . 
الجار مقدس ، والإنسان إذا كان بينه وبين جيرانه محبة ومودة تجده مطمئِناً ، الحياة فيها مخاوف ومفاجآت ومتاعب ، الإنسان يضطر أن يسافر أحياناً ، وأنا سمعت عدداً من القصص من العجيب .
ابن الجار أصيب بحادث سيارة ، والأب مسافر ، الجار يعامله كابنه أخذه من مشفى إلى مشفى ، ومن طبيب إلى طبيب ، فحصه ، وصوره ، وحلل له كأنّه ابنه ، جاء وعطل عمله يومين أو ثلاثة وهو يتنقل بابن جاره من طبيب إلى طبيب ، ومن مشفى إلى مشفى ، ومن تصوير إلى تحليل ، وهو ينفق ، هذا هو الجار ، جاري مسافر وهذا ابنه وأنا أقرب الناس له ، فعندما يسافر الإنسان ويكون له جيران ذوو أخلاق عالية ، مؤمنون طيّبون يطمئن فكل الأمور تُحَل في غيبته .




الحقيقة عندما يكون الإنسان محسناً لجاره فالمكسب معه ، فقد دخل في عالم الأمن ، عالم الحب ، عالم المودة ، عالم تبادل المنافع ، عالم العطاء .
1ـ أول أبواب حسن الجوار أن تحتمل أذى جارك :
مرة ثانية أحد أبواب حسن الجوار أن تحتمل أذى الجار ، أي يجب أن يكون عندك قدرة على امتصاص الإساءات ، تجد شخصاً لا يتحمّل فوراً يرد على الإساءة بإساءة ، لكنّ المؤمن عنده قدرة اسمها : امتصاص الإساءة ، أي أنّ الجار أساء وكأنّه لم يسيء ولكن هذا لا يطيقه إلا مؤمن هدفه إرضاء الله عزَّ وجلَّ ، هدفه إرضاء الله ، فإذا أخطأ الجار أو تجاوز جهلاً أو خطأً أو غفلةً ، فليس عنده هذا الحقد ، تجده يمتصّ الإساءات وكأنّها لم تقع ، هذا المؤمن ، فأولى بنود حسن الجوار كفُّ الأذى عن الجار .


2ـ أعلى درجة في حسن الجوار أن تكف أذى الآخرين عن جارك :
الدرجة الأعلى أن تكُّفَّ عنه أذى الآخرين ، فأحياناً يوجد جار آخر سفيه وأنت الجار الأقرب ، فرأيت تطاولاً فدافعت عن جارك ، أو عملت وساطة ، أو أصلحت بينهما ، وإذا كنت قوياً تمنع جارك الثاني السيّئ منعاً قطعيّاً .
3ـ الباب الثالث الإحسان إلى الجار :
الباب الثالث الإحسان إلى الجار .
4ـ الباب الرابع تجاوز أخطاء الجار :
الباب الرابع تجاوز أخطاء الجار ، فإذا أخطأ فعليك أن تتجاوز عن هذا الخطأ ، فإذا أخطأ عن غير قصد فمن باب أولى أن تتجاوز عنه ، وإذا أخطأ عن غير قصد واعتذر منك فالأولى أن تعفو عنه .
أصبح هناك خطأ يجب أن تتجاوزه ، وخطأ عن غير قصد أولى أن تتجاوزه ، وخطأ عن غير قصد مع اعتذار فمن باب أولى أن تتجاوزه وأن تعفو عنه .
الحقيقة أعلى المراتب ، أن تحلم على من جهل عليك ، وأن تحسن إلى من أساء إليك ، وأن تعفو عمن ظلمك ، هذه بالكلام سهلة ، لكن بعالم الواقع عندما يتلقّى الإنسان إساءة من إنسان يتمنى أن يقطّعه قطعاً ، أو أن يحطمه ، ويتمنى أن ينتقم منه أشدّ الانتقام ، أو يكيل له الصاع عشرة ، هكذا النفس البشريّة ، فعندما ينتصر الإنسان على نفسه ويعفو عمن أساء إليه ، ويعطي من حرمه ، ويصل من قطعه ، ويعفو عمن ظلمه ، ويحلم على من جهل عليه ، هذه مرتبةٌ عاليةٌ جداً وقال العلماء : إنّها مرتبة الصدّيقيّة .


       

قال الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم : 
(( أمرني ربي بتسع خشية الله في السر والعلانية ، كلمة العدل في الغضب والرضا ، القصد في الفقر والغنى ، وأن أصل من قطعني ، وأن أعفو عمن ظلمني ، وأن أعطي من حرمني ، وأن يكون صمتي فكراً ، ونطقي ذكراً ، ونظري عبرة )) .
[أخرجه زيادات رزين عن أبي هريرة ]
بالمناسبة أنت لا تعلم ماذا يعني العفو عن جارك ؟ الإنسان بحكم غريزته وبهيميته يتمنى أن ينتقم ، أما لو عفا ، أي أنّ أحد وسائل معالجة المسيء أن تعفو عنه أحياناً ممكن بعفوك أن تقرّبه ، فسيّدنا عكرمة بن أبي جهل أهدر النبي دمه ولو تعلّق بأستار الكعبة فلمّا طلب منه أن يعفو عنه عفا عنه ، صار عكرمة من أقرب الناس لرسول الله ومن أشدّ الصحابة الكرام دفاعاً عن رسول الله ، فأنت إذا كان لك جار خصم وتعفو عنه ، قد لا تصدّق أنّ هذا الجار المزعج أصبح أقرب الناس إليك .
النبيّ الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم كان عنده قدرة كبيرة جداً أن يجلب إليه الناس ، عنده قدرة يصبح بها أعداؤه الألدّاء أشدّ الناس حباً له ، فالمؤمن من باب أولى ، النبي الكريم عنده هذه القدرة وأنت مؤمن فيجب أن تحاول أن تستجلب الخصوم ، ودائماً الإحسان هو الذي يجلب ، فالجار السفيه بالإحسان إليه يسكت لسانه ، الجار المؤذي الإحسان إليه يقطع يده ، الإحسان يقطع اليد ويقصّ اللسان ، فالموفّقون والأذكياء في الحياة يصلون إلى مآربهم بأسلوبٍ سهلٍ .
مثلما أخبرتكم من قبل عن سيّدنا معاوية عندما جاءه كتابٌ من عبد الله بن الزبير يقول فيه : أما بعد ، يا معاوية إنّ رجالك قد دخلوا أرضي فانههم عن ذلك وإلا كان لي ولك شأنٌ والسلام ، بالطبع كان يزيد فيه دم الشباب ، فلما قرأ الكتاب قال : أرى أن ترسل له جيشاً أوّله عنده وآخره عندك يأتونك برأسه ، ولكن سيّدنا معاوية كتب : أما بعد ، لقد وقفت على كتاب ولد حواريّ رسول الله ، ولقد ساءني ما ساءه ، والدنيا كلُّها هيّنة جنب رضاه ، فجاء الجواب : أما بعد ، فيا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك ، ولا أعدمك الرأي الذي أحلّك من قومك هذا المحل .
لاحظ لو كان قد أخذ سيّدنا معاوية برأي ابنه يزيد لحدثت حرب بينهم وقتلى وفتن لسنوات عدّة ، وصلح ونقض لوقف إطلاق النار ، وإطلاق نار من جديد ، وتستمر لسنوات ، لكن بهذا الموقف الحليم الذي فيه عفو قص به لسانه ، فقط تطاول أولاً بقوله : أما بعد ، يا معاوية ، أما بعد ذلك قال : أما بعد ، فيا أمير المؤمنين . فقد اختلف الكلام .


       

أنت بالإحسان بإمكانك أن تقُصّ اللسان ، مجازاً ، وأن تقطع اليد بالإحسان .
((ألا أدلُّكم على ما يرفع الله به الدرجات . قالوا : بلى يا رسول الله . قال : تحلم على من جهل عليك ، وتعفو على من ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك )).
[روى البزّار والطبراني عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ‏‏]
حدثني أخ من أخواننا الكرام يسكن في بلدة بعيدة عن دمشق عن حادث قتل بين أسرتين ، وتفاقم الحادث إلى قتل مقابل أخذاً بالثأر ، وتهيّأ الطرف الثاني للأخذ بالثأر ، وهذه العملية سلسلة لا تنتهي فقد تستمر عشرين سنة أو ثلاثين سنة ، فحضر الأخ إلى الشام واستمع لخطبة وموضوعها كان عن العفو وهي من الخطب الموفّقة ، فاستمع لهذا الشيء فتأثّر ، فأخذ شريط الخطبة إلى بلده وأسمعه للطرفين ، فما كان من الطرف المعتدي إلا أن ذهب إلى المعتدى عليه مستسمحاً ومعه هدايا وتم الصلح بين الأسرتين ، وانتهت سلسلة القتل والأخذ بالثأر ، ومن شدّة فرحه اشترى عدداً كبيراً من هذه الأشرطة وقام بتوزيعها في حمص بلا مقابل ، نظير أن يحل العفو محل الانتقام .
العنف لا يأتي إلا بالعنف ، العنف طريق مسدود ، فبعد عشرين سنة من العنف تخلّفنا مئة سنة ، السِنون إلى الخلف ولا غالب أو مغلوب ، فمن استفاد ؟ العدو .
لذلك موضوع العفو هام ، فأحياناً بالعفو تبني أمّة ، وبالعفو تؤسس وحدة وطنية ، العفو شيء مهم جداً ، فأنا أتمنى أن يجنح الإنسان إلى العفو بدلاً من الانتقام .
الانتقام يكون قد قرّب صاحبه من بهيميته ، أمّا بالعفو قربه من إنسانيته ، بالانتقام يصغر ، أمّا بالعفو يكبر ، بالانتقام يتفجر الشر ، أمّا بالعفو ينطوي الشر، الشر يتفاقم بالانتقام أمّا بالعفو يتلاشى ، بالانتقام تبتعد عن الله أمّا بالعفو تتقرب من الله ، بالانتقام تشعر بالقلق لكن بالعفو تشعر بالأمن ، فالعفو من نتائجه الأمن والطمأنينة والمحبة ، وانقطاع الشر وإحلال الخير مكان الشر ، طبعاً أصل هذا المعنى قوله تعالى :
﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) ﴾ 
( سورة فصلت : آية " 34 " )


       

قال : أنت إذا ملكت نفسك عند الغضب تصبح أقوى الأقوياء ، تجد أشخاصاً كثر تتفلت أنفسهم عند الغضب ، ويرتكب الشخص منهم حماقات ، وبعد الحماقات يضطر إلى أن يعتذر ، كان بمرتبة عالية ، فتحامق فأصبح بحاجة إلى أن يتذلل أمام الأقوياء ، أقول لمثل هذا الإنسان أنت لا تطلع ولا تنزل ، لك مستوى لو لم تتجاوزه إلى أعلى وانتقمت وتوعدت وبطشت ، الآن كنت في غنى عن هذا الذل الذي وقفته أمام فلان .
أعرف شخصاً في ساعة غضب تكلّم بكلام من دون تفكير وبالطبع سيدفع الثمن باهظاً ، فوقف أمام إنسان كأنّه طفل يرجوه وبكى أمامه ، وقد كنت حاضراً فقلت : كان يغنيه لو تعقّل أن لا يتجاوز قدره والآن كان يغنيه أن لا يذل نفسه ، لو استعمل عقله ما كان تجاوز قدره ، ولو استعمل عقله ما كان وقف هذا الموقف الذليل .
لاحظت أن أكثر الناس المتسرعين يطلع وينزل ، يتجاوز قدره ، ثمّ يقف موقفاً أقل من قدره بكثير لذلك : رحم الله عبداً عرف حدّه فوقف عنده .
أيها الأخوة ، حقوق الجار يجب أن تلقّن للصغار تلقيناً ، ومع التلقين يجب أن يراها الصغير عمليّاً ، التربية لا تنجح ولا تكون ذات تأثير بليغ إلا إذا اجتمع التوجيه النظري مع التطبيق العملي ، فالابن الصغير يقول له الأب : يا بني الجار له حق كبير ، النبي أوصانا بالجار .
((  مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ  )).
[ متفق عليه عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا] 
لكن الابن عندما يرى في اليوم التالي والده يسلّم على الجار ويعوده إذا مرض ، ويعزّيه إذا أصابته مشكلة ، ويشيّع جنازته ، ويقدّم له بعض الطعام أحياناً ، وإذا طرق الباب يريد شيئاً أو حاجةً أعطاها له على الفور ، فأصبح درساً نظرياً ودرساً عملياً .
إذا أردت لابنك الصغير أن ينشأ على توقير الجار فلقنه مبادئ حسن الجوار ، وأره من سلوكك ما يؤكّد هذه المبادئ .




ننتقل إلى حقٍ آخر من الحقوق التي ينبغي أن تلقّن للصغار وهو حقُّ المعلّم ، كلُّكم يعلم أنّه قبل عشرين أو ثلاثين سنة كان المعلّم إنساناً مقدّساً في الحياة ، وتقديس المعلّم كان من نتائجه خير عميم ، فلا يوجد أحد من هذا الجيل الذي نعيشه إلا وله أساتذة كبار أخلاقيّون ، مرشدون ، ناصحون ، ورعون ، فالأستاذ له مكانة كبيرة ، ولكن حينما تزلزلت هذه المكانة وتضعضعت ، وحينما تجرّأ الصغار على المعلّم انتهى بذلك التعليم .
أنا أقول : ما من شيءٍ يشُلّ التعليم كأن تهدر كرامة المعلّم ، أو أن نسمح لطفلٍ أو لطالبٍ أن يتجاوز حدّه مع معلّمه .
قد سمعت أنّه في بعض البلدان إذا طفل تجاوز حدّه مع معلّمه هذا سجّل في صحيفته ، وتنتقل هذه الصحيفة من مدرسة إلى أُخرى ، ومن مرحلة إلى أخرى ، ترافقه طوال حياته ، ويبنى على هذه الصحيفة قبوله أو رفضه في المدارس الأُخرى ، أي أنّه شيء خطيراً جداً أن يسيء الطالب إلى معلّمه فثبت ذلك في صحيفته ، وانتقل معه من مدرسة إلى مدرسة ، ومن مرحلة إلى مرحلة ، وكلّما طلب طلباً للانتساب إلى مدرسة أو معهد طُلب فيه صحيفة أعماله ، فإذا كتب فيها إساءات يرفض .
ليس من صالح أحد أن تهدر كرامة المعلّم ، بل ليس من صالح التعليم كلّه ، ولا من صالح الأمّة ، ولا من صالح جيلها الصاعد أن تهدر كرامة المعلّم ، لذلك احترام المعلّم حضارة ، وعدم احترامه تخلّف .
سمعت أنّه بألمانيا في الاحتفالات الرسميّة إذا وجد معلّم وعمدة البلدة فالمعلم يقدّم في كلّ شيء على عمدة البلدة ، أي يوجد منصبان في هذه القرية ، المعلم وعمدة القرية ، والمعلّم مقدمٌ دائماً على العمدة ، وفي هذا البلد ـ فيما سمعت ـ وفي أي مستوى إذا تواجد رئيس البلد ورئيس جامعة رئيس الجامعة مقدّم في التكريم على رئيس البلد ، لأنّ العلم أساس التقدّم ، وتكريم المعلّم حضارة ، وعدم تكريمه تخلُّف ، وليس من صالح أحد أن يساء للمعلّم لأن ابنك عنده .


       

الآن سأنصحكم نصيحة لا أحد من الآباء يقوم بعمل بطولة أمام ابنه على المعلم ، كأن يقول لابنه : معلّمك لا يفهم ؟ ما هذه الكلمة ؟ هذه كلمة كبيرة جداً أمام ابنك هذا معلّمه .
الأب العاقل لو شاهد أخطاء من معلّم ابنه يمتصُّها ، ويبرّرها ، ويغطيها ، لكن لا يتجاوز حدّه مع المعلّم فهو يعد بالنسبة له أكبر كيان .
أقول لكم : إذا أردنا أن نبني أمّةً فلا يوجد طريق إلا أن نبدأ من التعليم ، لأن هذا الجيل الصغير مستقبل الأمّة به ، وهذا الجيل من يعلّمه ؟! فالمعلم الضائع ، والمقهور ، والذليل ، والجاهل ، هذا لا يُعلِّم ، ففاقد الشيء لا يعطيه ، لذلك مهما بذلنا من أجل إكرام المعلّم فالإكرام استثمار وليس هدراً لأنّه يعود بالنتيجة على سائر الأمة .
اسمعوا أيها الأخوة ماذا قال النبيّ عليه الصلاة والسلام في حقّ المعلّم :
(( ليس من أُمّتي من لم يجلّ كبيرنا ، ويرحم صغيرنا ، ويعرف لعالمنا حقّه )).
[أخرج الإمام أحمد عن عبادة مرفوعاً]
ليس من أمّتي ، أي أنّ النبي عليه الصلاة والسلام نفى انتماء هذا الإنسان لأُمّة محمد ، الذي لا يعرف لعالمنا حقّه ، طبعاً المعلّم الذي يعلّمك .
(( تعلّموا العلم ، وتعلّموا للعلم السكينة والوقار ، وتواضعوا لمن تتعلّمون منه)).
[ روى الطبراني في الكبير عن أبي أُمامة ]
أي أن المعلّم يقدّم روحه ، وكلّ خبراته ، وكلّ طاقاته ، وكلّ وقته ، إذا وجد من الطالب الاستجابة والاحترام والتقدير والأدب ، لكن لو تجاوز الحد معه بالمزاح أو الضحك أو بكلمة فيها تعليقٌ لاذعٌ فقد جرحته فلن يستطيع أن يعطيك شيئاً لأنّه بشر .
إنّ المعلّم والطبيب كلاهما                لا ينفعان أبداً ما لم يكرما
***
أي بإكرام المعلم أعطيته حافزاً لأن يعطيك كلّ ما عنده من علم .
أنا سابقاً كنت مديراً لمدرسة ثانويّة ، وكان عندي مدرّسٌ للعلوم الطبيعيّة ومتفوّقٌ جداً في التدريس ، في أحد المرّات تأخر ساعة لأسباب قاهرة ، ومعنى ذلك ستشطب هذه الساعة من دوامه ويقابل هذا تأخير ترفيعه شهراً على مدى الحياة ، وهو معلّمٌ مخلصٌ ومتفوقٌ ويقدم الشيء الكثير للطلاب ، فطلب إجازة صحيّة لتغطية هذا الغياب أمامي ، فقلت له : لا أراك مريضاً ، فوقّع الساعة وكأنّك حضرتها وكأن شيئاً لم يحدث على الإطلاق ، والله أيُّها الأخوة أعطى هذا المعلم أكثر من ثلاثين ساعة إضافيّة بعد الدوام حباً وكرامة ، فقد وجدها كبيرة ، فقد كان من الممكن أن يتأخر ترفيعه بسبب هذا الغياب .


       

إكرام المعلّم من مصلحة الأمّة ، وتوفير حقوقه ، وراحته ، وكرامته ، أنا لا أقول لكم أن تصدروا تشريعات فنحن مواطنون ، ولكنّي أقول لك كأب أن لا تحاول أن تهين معلّم ابنك أمام ابنك ، لا تحاول أن تتكلّم عنه كلاماً يهينه ، أو أن تتأفف من مطالبه ، فهذا المعلّم رمز للعطاء ، فإن وجدت أخطاءً فيجب عليك أن تغطيها بطريقة ذكيّة جداً ، بأن توفّق بين ضجر الابن وبين توجيهات المعلّم .
(( تعلّموا العلم ، وتعلّموا للعلم السكينة والوقار ، وتواضعوا لمن تتعلّمون منه)).
[ روى الطبراني في الكبير عن أبي أُمامة ]
(( ثلاثةٌ لا يستخفّ بهم إلا منافق ؛ ذو الشيبة في الإسلام ، وذو العلم ، وإمامٌ مقسط . ))
[ روى الطبراني في الكبير عن أبي أُمامة ]
أي أنّ المعلم لا يستخفّ به إلا منافق ، لأنّه يقدّم القيم والمعلومات ، وهو يقدّم روح الأمّة .
(( اللهم لا يدركني زمانٌ لا يُتبعُ فيه العليم ، ولا يُستحيى فيه من الحليم ، قلوبهم قلوب الأعاجم وألسنتهم ألسنة العرب )).
[ روى أحمد عن سهل بن سعد الساعدي]
أرأيت إلى هذا الوصف الدقيق ، العليم لا يُتّبع ، والحليم لا يُستحيى منه ، الآن تجد أحياناً طفلاً صغيراً إذا وجد رجلاً وقوراً ماشياً فيقوم بتقليده ، أو يسلّم عليه سلاماً فيه استهزاء ، وإذا كان ذا بصر ضعيف يحاول أن يزعجه ، فالابن غير المربى كالوحش ، أما إذا كان مربّى فتجده مؤدباً ويقدّم الكبير ، أحياناً تجد بالسيارة العامّة طفلاً صغيراً جالساً على المقعد لا يتجاوز وزنه الثلاثين كيلو ورجلاً كبيراً في السن ويحمل في يديه أشياء فيتركه واقفاً دون أن يهمّه ذلك الأمر .
أنا عندما أرى شاباً يجلس في مكانٍ مريحٍ وجاء أخ أكبر منه سناً فوضعه في محله يكبر هذا الشاب بعيني كثيراً ، إني أحب الأدب .
ذات مرّة كان يجلس سيّدنا رسول الله ويجلس سيّدنا علي على يمينه ، فجاء سيّدنا الصدِّيق فقام له سيّدنا علي ، فقال النبي : 
(( إنما يعرف الفضل لأهل الفضلِ ذو الفضل .))
[ رواه الخطيب عن أنس مرفوعاً ]
أثنى عليهما جميعاً .
أحياناً تجد شاباً إذا رأى شخصاً يحمل أغراضاً كثيرة يحملها عنه ويعاونه فيها ، فالشاب المربّى لا يقدّر بثمن ، يحترم الكبير ، والمعلّم ، ويحترم ذا الشيبة في الإسلام ، أما تجاوز الحدود والسفاهة والتهكُّم والكلام بصوتٍ مرتفع قال عنه النبي الكريم :
(( اللهم لا يدركني زمانٌ لا يُتبعُ فيه العليم ، ولا يُستحيى فيه من الحليم ، قلوبهم قلوب الأعاجم وألسنتهم ألسنة العرب )).
[ روى أحمد عن سهل بن سعد الساعدي]


       

كان عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام البخاري :
(( النبي صلى الله عليه و سلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد ثم يقول أيهما أكثر أخذا للقرآن فإن أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد ))
 [رواه البخاري عن أبي هريرة ]
أي أن تكريم العلم حتّى في أثناء الدفن ، الاثنان شهيدان وسيدفنان في قبرٍ واحدٍ ، فيقول النبي : أيُّهما أكثر حفظاً لكتاب الله فقدموه ، فحتى في أثناء الدفن كان معيار العلم هو الذي يؤخذ به .
الإمام الشافعي كان يوقّر أستاذه كثيراً فلمّا عوتب على تواضعه قال :
أُهين لهم نفسي فهم يكرمونها               ولم تكرم النفس التي لا تُهينها
***
ألاحظ في كثير من الاحتفالات والموالد تجد عالماً جليلاً قبّل يد أستاذه ، هذا الشيء يرفع مقامه عند الناس ، تجد له لفّة وعمامة وجبّة وهو خطيب مسجد مشهور ، ودخل أستاذه الذي علّمه فتجده يضعه في محلّه ويحترمه احتراماً بالغاً ويوقره في الكلام ، فلا زلنا بخير إذا وقّرنا كبيرنا ورحمنا صغيرنا وعرفنا لعلمائنا حقّهم .
يقولون إنّ ابن عبّاس رضي الله عنه على جلالة قدره وعلوّ منزلته أخذ بركاب زيد بن ثابت الأنصاري ، فلما قيل له : أتفعل هذا وأنت ابن عمّ رسول الله ؟ قال : هكذا أُمرنا أن نفعل بعلمائنا .
الركاب : مكان يصعد به على الدابة ، فأمسك الركاب وقدّمه لزيد بن ثابت الأنصاري ، وهو ابن عبّاس ابن عمّ رسول الله ، هذه القصص ينبغي أن تلقّن للصغار حتى يحترموا معلّميهم ، وفي احترام المعلّم نجاحٌ للتعليم .
الإمام أحمد بن حنبل قال لخلف الأحمر : لا أقعد إلا بين يديك ، أُمرنا أن نتواضع لمن نتعلّم منه .
الإمام أحمد بن حنبل العالم الجليل ، الفقيه الكبير ، المجتهد بل أحد أربع كبار المجتهدين ، يقول لأستاذه خلف الأحمر : لا أقعد إلا بين يديك ، أُمرنا أن نتواضع لمن نتعلّم منه .
الإمام الغزالي يقول : لا ينال العلم إلا بالتواضع وإلقاء السمع ، العلم نفيس .
الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قال : كنت أصفح الورقة بين يدي مالك صفحاً رقيقاً هيبةً لئلا يسمع وقعها .
أحياناً تجد طالباً يقلّب الصفحات بصوت مسموع وعالٍ ، وتجد طالباً آخر يقلّبها دون أن تسمع لها صوتاً أو جلبةً فهذا هو الأدب ، وكان أدب الإمام الشافعي مع أستاذه بهذه الطريقة ، فتقليب الصفحة بصوت مرتفع فيه إساءة ، من الممكن أن تقلّب صفحات كتاب صفحة صَفحة دون أن تحدث صوتاً أو جلبةً .




أحياناً تجد الطلاّب إذا قال لهم أستاذهم : ضعوا الكتب على الطاولات يلقوه بقوّة فيخرج صوتٌ مرعبٌ ، لعدم الأدب فهو يريد شيئاً يتجاوز فيه الحد .
يقول الربيع : والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليّ هيبةً له .
أحياناً أحضر عقد قران ، تجد المتكلّم يتكلّم وهم يجمعون صحون الضيافة مع صوت لا يحتمل ، أو يصبون القهوة ، وأحياناً وأثناء إلقاء الكلمة يتشاجرون ويرفعون أصواتهم ، فهذا منتهى سوء الأدب ، ما دام هناك إلقاء كلمة فيجب أن لا يكون تقديم للقهوة ، ولا توزيع للماء ، ولا توزيع للطعام ، لأنّ القاعدة : لا يجتمع درسٌ وضرس ، أي إما أكل وإما سماع ، إذا لم يكن الإنصات كاملاً للخطيب فلا يكون إلقاء درس .
في الحقيقة المتكلّم إذا وجد تشويشاً وجلبة وتوزيع قهوة وماءً وتقديماً للطعام وجمعاً للصحون فقد ذهبت أفكاره كلّها ، وكذلك ذهبت معنويّاته كلّها ، وكذلك إبداعه ، فإذا دعاك أحد إلى إلقاء كلمة فإيّاك أن تلقيها إلا وهناك إنصات تام ، وإلا تفقد أربع أخماس قدراتك ، وتفشل بالكلمة ، وكلّ ذلك من سوء الأدب .
قيل مرّة إن أحد أولاد الخليفة المهدي حضر عند أستاذه شريك ، فابن الخليفة استند إلى الحائط وسأل أستاذه سؤالاً ، فلم يجبه عليه أبداً ولا التفت إليه ، فعاد فسأله مرّة ثانية فما أجابه ولا التفت إليه ، فقال : أتستخفُّ بأولاد الخلفاء هذا الاستخفاف ؟! أي معقول ، لا تجاوبني ولا تنظر إلي ؟ قال : لا ، ولكنّ العلم أجلُّ عند الله من أن أُضيّعه .
أي ما دمت آخذاً لراحتك فلن أجيبك ، أنا والله يلفت نظري أحياناً أنه اللهمّ صلِّ عليه ما رُئي مادّاً رجليه قط ، وهو سيّد العالمين ، أحياناً تجد إنساناً ماداً لرجليه في الجامع من دون عذر ، فلو كان بعذر فلا أتكلّم شيئاً ، فالعذر على العين والرأس ، والمعذور لا أحد يتكلّم به ، أحياناً يكون عنده التهاب مفاصل ، أو تكلُّس للمفاصل ، أو حالات معيّنة ، أو آلام بالفقرات فيحتاج إلى جدار ليسند نفسه ، فهذا الموضوع لا دخل لنا فيه .
أنا أتكلّم عن إنسان لا يوجد به شيء على الإطلاق ، ويحاول أن يجلس جلسة غير أديبة وفيها راحةٌ تامّة وبعد ذلك تجده قد غفل ، ثم كبا على وجهه ، ثمّ يعلو شخيره ، أي على ثلاث مراحل ، إذا جلسة مريحة يصاحبها نوم ، وإذا كان النوم مريحاً يصاحبه الشخير .


       

قيل : ينبغي أن لا يخاطب المعلّم بكاف الخطاب أو تاء الخطاب ، كأن يقول : قلت لك ، أو بدك الوظيفة ، بل ينادى بـ : يا معلّمي ويا سيّدي ويا أستاذي .
أن لا يذكر اسم معلّمه بالذات في غيبته إلا مقروناً بما يُشعِر بالإجلال والتوقير كأن يقول : قال معلِّمنا ، قال أستاذنا .
أحد الأشخاص من مصر وهو صاحب شركة ومسلم سأل أحد الأخوة الأصدقاء قائلاً : أين قبر محمد ؟ فقال له : من محمد ؟ قال له : النبي ، فرد عليه قائلاً : إنه بمكة وليس بمصر !
شخص مسلم لا يعرف أين قبر النبيّ ، ويقول : قبر محمد ، نحن والله يوجد عندنا أدبٌ رفيعٌ نقول : سيّدنا محمد ، وليس محمد فقط ، هكذا المؤمن كلّما ازداد إيمانك ازداد أدبك .
قيل : ينبغي للطالب أن يدعو لأستاذه مدّة حياته كأن يقول : جزاه الله عنّا خيراً ، ويرعى ذريّته وأقاربه من بعده وأهل ودّه ، ويعتمد زيارة قبره ، والاستغفار له ، والصدقة عنه في كلِّ فرصةٍ سانحة ، ويراعى في العلم والدين والأخلاق عادته ، ويُقتدى بحركاته وسكناته ، ويُتأدّب بآدابه باعتباره الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة .
لكن توجد حالة نادرة ، فأحياناً تجد معلّماً عصبي المزاج ، فهو مخلص وعالم ولكنّه عصبي ، فماذا يفعل المتعلّم ؟؟ هل يرفض المعلّم ؟ العصبيّة نقص في الإنسان ، يضيق ذرعاً بالسؤال على الفور فقيل في ذلك : ينبغي على المتعلّم أن يصبر على سوء خلق معلمه وجفوته .
ليس معنى سوء خلق بهذا المعنى الدقيق ، لكنّه يكون ذا نمط عصبي المزاج ، يضيق ذرعاً ببعض الأسئلة ، فإذا كنت تستفيد من المعلّم فتحمّل بعض طباعه التي لا تروق لك ، هذه من آداب المتعلّم ، أن يصبر على بعض طباع معلّمه .
مما ينقل عن بعض السلف : من لم يصبر على التعليم بقي عمره في عماية الجهالة ، ومن صبر عليه آل أمره إلى عزَّ الدنيا والآخرة .
ابن عباس يقول : ذُللت طالباً فعُزِّزت معلّماً .
قيل لسفيان بن عيينة : إنّ قومك يأتونك من أقطار الأرض تغضب عليهم يوشك أن يذهبوا ويتركوك ؟! فقال للقائل : هم حمقى إذا هم تركوا ما ينفعهم لسوء خلقي .
طبعاً في هذا الكلام مبالغة ، من المستحيل أن يكون الإنسان عالماً وسيّئ الخلق ، لكنني أقول : عالم عصبي المزاج ، بعض العلماء عندهم عصبيّة فتجده يثور سريعاً ، فإذا كان عالم جليل ويفيد وهو مخلص وأنت لك مصلحة عنده فتحمّله ، لكن الأكمل أن يجمع الإنسان بين حسن الخلق وبين عمق العلم ، وكلّ هذا الكلام يجب أن يعلّم للصغار حتى يتأدّبوا مع معلّميهم .


       

قال : كذلك على المتعلّم أن يكون متجنّباً في حضرة معلّمه كلّ ما يخلّ بوقاره وينافي الأدب والحياء ، فلا ينبغي أن ينظُر إليه أي يبحلق لمعلمه ولا يستحي ، فمن شدّ نظره إلى معلّمه فقد ساء أدبه ، وألا يعبث بيديه ، أو رجليه ، أو غيرهما من أعضائه ، وألا يعبث بيده في أنفه ، وألا يفتح فاه ، وألا يقرع سنّه ، وألا يضرب الأرض براحته أو يخطّ عليها بأصابعه ، وألا يشبّك بيديه ، أو يلعب بأزراره ، أو يتكلّم مع جاره ، وألا يتكلم ما يضحك بغير سببٍ فإذا غلبه تبسُّماً تبسّم من غير صوتٍ ، وألا يكثر التنحنح من غير حاجةٍ ، وإذا اضطر إلى العطاس فليخفض صوت عطاسه ما استطاع  ، ولا يضطرب لضجّةٍ ، فلو فرضنا الدرس منعقد والناس كلّهم أبصارهم عند المعلّم ، فلو حدث صوت تجد الكل ينظرون لمكان الصوت ، وإذا حدث صوت ثانٍ من جهة أخرى لتحوّلوا إليه كذلك ، معنى ذلك أنهم ليسوا ملتفتين للدرس ، فمن تمام أدب الاستماع انصرافك للمعلّم وتشاغُلُك عن كلّ ضجيج أو اضطراب خارجي ، وإذا اضطر إلى العطاس : تجد البعض يعطي العطسة أقصى مدى ، فيرعب الحضور ، كذلك يوجد فرق بي عطاس وعطاس ، يوجد عطاس مع كاتم للصوت ، وعطاس مع مكبّر للصوت ، وإذا تثاءب وضع يده على فمه .
ماذا قال سيّدنا علي عن آداب المتعلّم ؟؟ قال : من حقِّ العالِم عليك أن تسلّم على القوم عامّةً وأن تخصّ المعلّم بالتحيّة خاصّة ، وأن تجلس أمامه ، وألا تشير عنده بيديك ، وألا تغمز بعينيك ، وألا تقول : قال فلان خلاف ما تقول ، ولا تغتابنّ عنده أحداً ، ولا تطلبنّ عثرته ، وإن زلّ قبلت معذرته ، وعليك أن توقّره لله تعالى ، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته ، ولا تسارر أحداً في مجلسه ، وألا تأخذ بثوبه ، وألا تلِحّ عليه إذا اعتذر ، وألا تشبع من طول صحبته فإنما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شيء .


       

يجب ألا تقول : قال فلان خلاف ما يقول ، بعض طلاب العلم يترنمون فيها فقد يسمع فكرة فيقول : سيدي فلان قال عكس ما قلت ، والله شيء يحيّر ، يترنّم بعمل مشكلة ، ويأتي بقول مخالف وفلان قال وذكر اسمه ، وقد أعجبني عالم من علماء حمص الشهيرين أنّه إذا سُئل وقيل له : إنّ فلاناً قال كذا فلا يجيب السائل ، ويقول له : لو قلت لي ما قولك في الفكرة الفلانيّة أجيبك أما وقد عزيتها إلى فلان لن أجيبك ، حتى لا تكون فتنة ، سيدي : فلان أفتى بكذا فما قولك في ذلك ؟ فلن أتكلم بأي كلمة ، ولكن قل لي : ما قولك في ستر الوجه مثلاً ؟ فأقول لك الحكم الشرعي . أمّا أنت تذكر لي فلاناً وهكذا أفتى وما هو قولك ؟ فبذلك تعمل فتنة بيني وبينه . إن تكلّمت بخلافه فستقول له : سيدي فلان لم يعتبر فتواك فقد تكلّم بعكس ما قلت فتحدث الفتنة .
يجب ألا تسارر أحداً في مجلسه : وهو جالس نعطف أنت على صديقك أو على من يجلس بجوارك وتهمس في أُذنه ، وبعد ذلك تتبسمان معاً ، ماذا تكلموا بينهم لكي يتبسّما ، إذا كان أحد يتكلّم واثنان تهامسا وتبسّما يظن أنهما يضحكان عليه فيتألّم ، وقد يكون هذا ليس له علاقة بالموضوع كأن يكون قد سأله سؤالاً أو ذكّره بقضيّة فتبسّما ، ولكن المتكلّم يكون حساساً فماذا يظن ؟ يظن أنّ الهمس عليه .
ينبغي أن يدخل على معلّمه كامل الهيئة متطهّر البدن نظيف الثياب ، ولا سيّما إذا قصد مجلس العلم فإنّه مجلس ذكر واجتماع وعبادة .
قيل أن ابن عبّاس رضي الله عنه كان يجلس في طلب العلم على باب زيد بن ثابت حتى يستيقظ ، فيقال له : ألا نوقظه لك ؟ فيقول : لا ، وربما طال مقامه وقرعته الشمس قال : كذلك كان السلف يفعلون .
والله أحياناً أناس يتصلون بي في الساعة الواحدة والنصف ليلاً سؤالاً عاديّاً فما هذا ألا أنام ؟!! بأي وقت تتصل وبكل بساطة يطرق الباب ، يقولون له : إنه نائم ، فيقول : أيقظوه لنا . هذا الشيء غريب ويقع .
قال عطاء : إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به منه ، فأُريه من نفسي أني لا أُحسن منه شيئاً ، وقال عنه : إنّ الشاب ليتحدّث بحديثٍ فأسمع له كأني لم أسمعه ولقد سمعته قبل أن يولد .
أحياناً تعاد قصّة مرتين فيقول : هذه القصّة سمعناها ، أنت سمعتها وغيرك لم يسمعها فهذا الدرس درس عام ، فلا تكن شديد المحاسبة ، السماع سهل والتكلُّم صعب .




إنّ الشاب ليتحدّث بحديثٍ فأسمع له كأني لم أسمعه ولقد سمعته قبل أن يولد ، أحياناً شاب يحدّثك بحديث فالإصغاء أدب فلا تقل له : هذه نعرفها ، يصغي له وكأنّه لا يعرفه ، أبو تمام له وصف دقيق يقول : 
          مـن لي بإنسانٍ إذا أغضبته                وجهلت كان الحلم ردّ جوابه
وإذا طربت إلى المُدام شربته                من أخلاقه وسكرت من آدابه
          وتراه يصغي للحديث بسمعه                وبقلبه ولعلّــــه أدرى به
***
آخر شيء نختم به الدرس ، قال بعض السلف ، قال الحبيب بن الشهيد لابنه : يا بني اصحب الفقهاء والعلماء وتعلّم منهم ، وخذ من أدبهم ، فإنّ ذلك أحبُّ إليّ من كثيرٍ من الحديث .
قال آخر لطالبٍ عن الأدب : نحن إلى كثيرٍ من الأدب أحوج إلى كثيرٍ من العلم .
كما قال بعض السلف : يا بني ، لأن تتعلّم باباً من الأدب أحبُّ إليّ من أن تتعلّم سبعين باباً من أبواب العلم .
قال ابن سيرين : كان أصحاب النبي يتعلّمون الهدى والسمت الحسن كما يتعلّمون العلم .


       

الأدب قبل العلم ، إلا أنّه قيل : إنّ المعلمين الملحدين والمربّين الذين لا دين لهم هؤلاء ليس لهم مكانة في القلوب إطلاقاً ، معلّم ملحد أو لا ديني يقوم ببث الرذيلة ، والاختلاط ، والانحراف ، هذا المعلّم لا يخضع لهذه المقاييس أبداً ، فالحديث عن معلّم مؤمن ذي رسالة ينصح الأمّة ويقدّم لها الآداب الراقية ويبُثُّ الإيمان في قلوب أبنائها ، أما الذي يخرّب القيم والمبادئ ويبُثُّ الإلحاد هذا لا ينبغي أن يحترم ، بل بالعكس ينبغي أن يقاوم حتى يقف عند حدّه .
أحد المعلّمين قال : أين الله ؟!! فما دمنا لم نره فليس موجوداً ، فقال له طالب : أين عقلك ؟ ما دمنا لم نره فليس موجوداً ، فإذا تجرّأ المعلّم على بثّ الإلحاد فلا مانع لديك معك رخصة أن تردّ عليه بالمثل وأقوى منه عندئذٍ تغضب لله ، فالمعلّم الملحد ليس له قيمة ولا شأن إطلاقاً ، ولا يستحقّ الاحترام ، ويجب أن يلقى الإهانة حتى يتراجع ، باحترامك له تكون قد عززته ، وكلّ إنسان مبتدع لو كرّمته تكون بذلك تدعم ابتداعه وإلحاده ، فالملحد والمبتدع لا يكرّم ولا يحترم ولا يلقى له بال ولا ينبغي أن تسكت على خطئه .
إذا بثّ إنسان فكرة غير صائبة فوجد الطلاب قد هجموا عليه فيتلملم وليتحجم ، أما إذا بثّ فكرةً غير صائبة والكل صامتون فسيتجاوز حدّه ، كلّ شيء قلته عن التعليم والمعلّم لا ينطبق على معلّمٍ ملحدٍ يبُثُّ الفكر الإلحادي بين الطلاب ، ولا على مدرّسة تشجع الاختلاط والفسق والفجور ، لأنّ هذا الكلام لا يعقل .
والحمد لله رب العالمين






اترك تعليقك

    Powered By Blogger