Banner 468

Facebook
RSS

التربية الاجتماعية ( 9 ) متابعة أدب الحديث

-
هيـــــــــــمــا ( إبراهيــــــــــم عبدالله قاسم )




بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الكرام مع الدرس الرابع والعشرين من دروس تربية الأولاد في الإسلام ، ونحن مع أدب الحديث .


       

قد تحدّثنا في درسٍ ماضٍ عن أنّ المتحدّث ينبغي أن يختار اللغة العربيّة الفصحى أو البسيطة ليست المقعّرة ، وأن يتمهّل بالكلام كما فعـل النبيّ عليه الصلاة والسلام ، وأن يبتعد عن التقعُّر والتكلُّف ، ويخاطب الناس علـى قدر عقولهم ، وقد قالوا في البلاغة : إنّها مراعاة الكلام لمقتضى الحال ، فالذي يأتي كلامه مطابقاً لمقتضى الحال فهو البليغ ، والله سبحانه وتعالى يقول للنبيّ عليه الصلاة والسلام :
﴿ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) ﴾ 
( سورة النساء )
القول البليغ الذي يطابق مقتضى الحال ، فقد تعلّمنا في درس البلاغة في الجامعة أنّه لو كلّفت طفلاً صغيراً أن يضع رسالة في البريد البلاغة تقتضي أن تقول له : أمسك هذه الرسالة واشترِ الطابع وضع عليه شيئاً من لعابك وضعه على الرسالة واضغطه جيداً وضعه في الصندوق الأحمر من الفتحـة اليمينيّة ، تعطيه تفاصيل كثيرة ، هذه التفاصيل هي عين البلاغة ، أما إذا أعطيت هذه الرسالة لصديقٍ لك بالغٍ عاقلٍ راشد ، تقول له : هذه من فضلك ضعها في البريد هذه هي البلاغة .
البلاغة مراعاة الكلام لمقتضى الحال ، فأحياناً يقتضي الحال أن تفصِّل ، أحياناً يقتضي الحال أن توجز ، أحياناً يقتضي الحال أن تؤكّد ، أحياناً يقتضي الحال أن تضرب المثل ، أن تأتي بالقصّة ، أن تأتي بالدليل ، أن تأتي بالشاهد ، لو أنّك خاطبت إنساناً غير مسلمٍ تقول له : قال تعالى في كتابه العزيز ؟ فهو غير مؤمنٍ بالقرآن ، يجب أن تأتيه بالدليل العقلي فقط ، إذا خاطبت مسلماً تأتيه بالدليل النقلي ، إذا خاطبت إنساناً لم تر عنده هذا العمق في الفهم تعطيه قصّة بسيطة لها مدلول عميق جداً ، فمراعاة الكلام لمقتضى الحال هي البلاغة بعينها .


       

الشيء الآخر في آداب الحديث التحدُّث بما لا يخل ولا يمل ، دائماً البلاغة بين الإيجاز المُخِل ، والإطناب الممل ، الكلام يسمّى حشواً يفهمه السامع من دون أن تقوله ومثالاً على ذلك فقد قال تعالى :
﴿ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ (43) ﴾ 
( سورة يوسف )
وقال :
﴿ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) ﴾
( سورة يوسف )
وقال :
﴿ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) ﴾
( سورة يوسف )
وقال :
﴿ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ (46) ﴾
( سورة يوسف )
 قال الملك : 
﴿ وَقَالَ المَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) ﴾ 
( سورة يوسف )
قال أحد رجال الحاشية : 
﴿ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) ﴾
( سورة يوسف )
توجد فجوة كبيرة جداً في القصّة وتفاصيل وجزئيّات فقول أحد رجال الحاشية : 
﴿ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) ﴾
( سورة يوسف )
التفاصيل : فأرسلوه فخرج من القصر وتوجّه إلى السجن وتقابل مع مدير السجن وقال له : عندك سجين اسمه يوسف يعلم تأويل الأحلام ، وقد أرسلني الملك لألتقي به ، كل ذلك الحديث مفهوم ولكن قال تعالى في الآية : 
﴿ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) ﴾
( سورة يوسف )
وقال :
﴿ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ (46) ﴾
( سورة يوسف )


       

الكلام الذي يفهم من دون أن يذكر الأولى ألا يذكر هذا قول البلاغيين : البلاغة في الإيجاز ، لذلك ورد عن سيّدنا الصديق : أن نضّر الله وجهه من أوجز في كلامه واقتصر على حاجته .
إذا كان كلامك موجزاً ، بين الإطناب الممل ، والإيجاز المخل بوضع دقيق جداً ، دائماً التطرُّف سهل ، الحديث الطويل المليء بالتفاصيل والجزئيّات والتحليلات السخيفة والتفاصيل المملّة هذا سهل على الإنسان .
يروى أنّهم سألوا رئيس جمهورية : كم يستغرق إعداد خطاب تلقيه في عشر دقائق ؟ قال: أُعدّه في عشر ساعات ، عشر ساعات إعداد لخطاب يلقى في عشر دقائق ، كل حرف منه يعني شيئاً ، وكل كلمة منه تعني شيئاً ، فقيل له كم تعدّ خطاباً تلقيه في ساعة ؟ قال : ساعة ، فقيل له : كم تعدّ خطاباً تلقيه في خمس ساعات ؟ قال : لا أُعدُّ له إطلاقاً .
كلّما صار الوقت ضيّقاً تحتاج إلى دقّة في التعبير ، لذلك البلاغة في الإيجاز ، أما الإيجاز المخل ليس بلاغةً ، والإطناب الممل ليس بلاغةً ، فتريد كلاماً لا يملّه السامع من كثرة التفاصيل والجزئيّات ، ولا يستعصي على فهم السامع لكثرة الإيجاز ، البلاغة بين الإيجاز المخل ، والإطناب الممل .
(( شهدتُّ مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجمعة فقام متوكِئاً على عصا أو قوس ، فحمد الله وأثنى عليه فكانت كلماتٍ خفيفاتٍ طيّباتٍ مباركات )).
[ أحمد وأبو داود عن حكيم بن حزام رضي الله عنه ]
إذا اهتمّ الإنسان بشيء تكفيه كلمات قليلة ، أمّا إذا أعرض عن الشيء لو ألقيت عليه آلاف المحاضرات ، فالإنسان الصادق تكفيه كلمات قليلة .




تصوّروا عندما سأل أعرابي سيّدنا رسول الله فقال له : عظني ولا تُطِل . فقال له : فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره . فقال له: كُفيت . فقال النبيّ : فقه الرجل . 
نحن نقرأ القرآن وعدد صفحاته ستمئة ، وآيةٌ واحدة كانت كافية لهذا الأعرابي ، وتوجد آلاف الآيات من هذا القبيل كآية :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) ﴾
( سورة النساء : آية " 1 " )
هذه الآية تكفي ، وكذلك الآية :
﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) ﴾ 
( سورة الفجر : آية " 14 " )
وآية : 
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) ﴾ 
( سورة الحجر : آية " 92 ، 93 " )
آية واحدة من هذه الآيات تكفي الإنسان طوال حياته ، فالبلاغة بين الإطناب الممل والإيجاز المخل .
((  كنت أصلّي مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فكانت صلاته قصداً ، وخطبته قصداً أي وسطاً )).
[ مسلمٍ عن جابر بن سمرة رضي الله عنه ]
ليس فيها إطالة ولا إيجاز ، كلام معتدل يفهمه السامع ويحفظه ، كلام منظّم ومركّز مع الأدلّة يخاطب العقل والقلب معاً ، مثل هذا الكلام له أثر طيّب .


       

فـي الصحيحين كان ابـن مسعودٍ يذكّرنا فـي كلّ خميس فقـال لـه رجل : يا أبا عبد الرحمـن لوددت أنّك ذكّرتنا كلّ يوم ، فقال : أما إنّه يمنعني من ذلك أنّي أكره أن أملّكم ، وإنّي أتخوّلكم ـ أتعهّدكم ـ بالموعظة كما كان عليه الصلاة والسلام يتخوّلنا مخافة السآمة علينا .
يعني أنّ الإنسان يجب أن يتكلّم والنفوس مشتاقة إلى كلامه ، وينبغي أن يسكت والنفوس مشتاقة إلى كلامه ، هذا كما يقولون في الطعام : اجلس إلى الطعام وأنت تشتهيه ، وابتعد عنه وأنت تشتهيه .
إذا تكلّمت تكلّم والناس مشغوفون بسماع كلامك ، وتوقّف عن الكلام وهم مشغوفون لمتابعة كلامك ، وعكس ذلك مخيف فإذا تمنّوا أن تسكت وأنت تتكلّم هذه مشكلة في الحديث ، وهنا نكون قد خرجنا عن البلاغة وعن آداب الحديث .
النبيّ على عظمته وعلى علوّ شأنه وعلى فصاحته وعلى حكمته وعلى نورانيّته كان : يتخوّلنا بالموعظة . فالمواعظ إذا كثرت أعطت عكس المفعول ، المواعظ كالملح في الطعام إذا زاد عن حدّه انقلب إلى ضدّه ، فإذا ربّى الإنسان أولاده فأكثر من التوجيهات والمواعظ ليلاً نهاراً وصباحاً مساءً فهذا الكلام لا معنى له ، عندنا قاعدة في البلاغة : الكلمة إذا كثر استعمالها فقدت مدلولها .
أصبح لا معنى لها ، فالمواعظ يجب أن تكون معتدلة من حين لآخر ، أما إذا أكثرت منها على الصغار أو على أبنائك أو على طلاّبك تفقد هذه الكلمات معناها.
يقول الإمام عليٌ كرّم الله وجهه : " إنّ القلوب تملُّ كما تملُّ الأبدان ، فابتغوا لها طرائف الحكمة ."
أي إذا جلس الإنسان مـع أولاده ، طلابه وتكلّم كلاماً جادّاً ولمدّة ساعتين فهذا شيء ممل ، يجب أن تمر بطرفة لطيفة ، أو تسأل سؤالاً ، أو تبتسم ابتسامة ، أو تداعب أحد أولادك ، أو تلقي بطرفة جميلة ، إذا المجلس لم يكن فيه ذلك يصبح مملاً ، فالنبي كان يمزح وكان لا يقول إلا حقاً ، فالمجلس يجب أن يكون فيه روحانيّة ، فيه طرفة ، أحياناً الفكاهة تؤدّي دوراً لا يعلمه إلا الله ، فيكون المجلس فيه من السآمة ، فيه الملل ، فيه الضجر ، فتأتي الفكاهة اللطيفة الأديبة تشجع وتنشّط الجسم وتزيد من الانتباه .


       

قد يكون الإنسان من أعظم العظماء ومرحاً ، فالمرح أساساً من صفات العظماء ، فإذا كان لديك طرفةٌ لطيفة ، تعليقٌ لطيفٌ ، لأنّ الدرس إذا كان مليئاً بالكهنوت ودائم الصرامة وكنت عبوساً قمطريراً ، فتجد كلّ الموجودين يتثاءبون ، ويملون ، ويقولون في أنفسهم : ما كان أبانا ينتهي إلى الآن من كلامه ، والله كل ذلك نعرفه فكفى ، هذه كلّها مشاعر داخليّة .
أما إذا كان هناك تعليق وحوار وسؤال ، أو قصّة أو مثل ، أو طرفة أو فكاهة ، فهذا مما يجذب النفوس ، لذلك فالحديث فن ويعدونه قدرة من قدرات الإنسان الخاصّة ، ويسمّونه متحدّثاً لبقاً ، أي عنده القدرة أن يجذب النفوس بحديثه ، فالحديث الذي يجذب له صفات سآتي عليها بعد حين .
الآن من آداب الحديث الإصغاء التام إلى المتحدّث ، أي تعلَّم حسن الإصغاء كما تتعلّم حسن الكلام ، من أعلى أنواع الأدب الإصغاء ، وتراه يصغي للحديث بسمعه وبقلبه ، مثلاً إنسان تكلّمه وهو يمسك بمسبحته أنت هنا وهو ينظر من النافذة ويقول لك : أكمل الحديث ، ماذا أكمل فأين أنت ؟!! أو يقوم بعمل ما ، أو يكتب ، أو يقرأ ، ويقول لك : تكلّم فأنا أسمعك جيّداً ، لا تقرأ ولا تكتب ولا تتشاغل ولا تمسك بالمسبحة ولا تنظر من النافذة ، فإذا كلّمك أحد فانظر إليه وأصغ له فهذا من الأدب .
الإصغاء من الآداب الراقية فكان عليه الصلاة والسلام يصغي لمحدّثه ، فبالطبع عندما يستمع الإنسان من رسول الله سيصغي له طبعاً ، أما النبي يستمع لإنسان عادي ويصغي له !! هذا أدب عالٍ .
أحياناً تجد شخصاً يظنّ أنّه يفهم وهو يخطئ في كل ما يقول ، لكن الأدب يقتضي أن تستمع إليه إلى أن ينتهي ، فتقول له : يا أخي الكريم هذه الفكرة صوابها كذا ، هذه الفكرة تحتاج إلى دليل ، هذه الفكرة تتناقض مع هذه الآية ، بأدب ، لكن أصغ له ، فإن أصغيت له ملكت قلبه ، لذلك من آداب الحديث الإصغاء .
كان الصحابة رضي الله عنهم حينما يحدّثهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بحديثٍ كأنّ على رؤوسهم الطير ، من شدّة الأدب ، من فرط المهابة ، من شدّة الاهتمام ، وفي مقابل هذا كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصغي كلّ الإصغاء إلى من يحدّثه أو يسأله ، بل يقبل عليه بكلّيته ويلاطفه .


       

روى أبو داود عن أنسٍ رضي الله عنه قال : 
(( ما رأيت رجلاً التقم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فينحي رأسه حتى يكون هو الذي ينحي رأسه .))
[أبو داود وابن عساكر عن أنس رضي الله عنه]
إذا اقترب أحد من النبيّ ووضع فمه في أُذنه وهمس له سراً فالنبي لا ينحّي نفسه عنه أبداً من شدّة الأدب ، حتى يكون الرجل هو الذي ينحّي رأسه .
مشى عديُّ بن حاتم ذات مرّة مع النبي في الطريق فاستوقفته امرأةٌ فوقف معها النبيّ يكلّمها في حاجتها ، فقال : والله ما هذا بملك هذا نبيّ . 
هذا التواضع الشديد ، والإصغاء التام من آداب الحديث .
أيّها الأخوة الكرام يوجد بعض أمراض تصيب الأطفال في الكلام كالتأتأة ، والثأثأة ، والحبس ، فإذا أراد أن يتكلّم فلا يستطيع ، هذه الأمراض أسبابها نفسيّة ، أسبابها ضعف الثقة ، وأسباب ضعف ثقة الطفل الصغير بنفسه عدم اهتمام والديه به حينما يتكلّم ، إذا لم يصغوا له وقالوا له : اسكت إنّك لا تفهم واخرج من هنا ، هذا التصرف ليس من أخلاق المؤمنين ، فهذا ابنك يتكلّم فاستمع له ، إذا أنت أسكتّه ولم تبال بكلامه ، وقمعته على الدوام ، تضعف ثقته بنفسه ، فإذا أراد أن يتكلّم يتهته ، فالثأثأة والفأفأة والتأتأة وانحباس الكلام ، هذه من أمراض الكلام قد درسناها في الجامعة ، توجد مجموعة أمراض كل أسبابها نفسيّة ، فالطفل ليس به أي عيب خلقي ، جهازه النطقي تام وكامل مئة في المئة ، لكن يوجد عنده ضعف ثقة بالنفس ، توجد كثير من الأمراض أساسها نفسي . 
عندما يقمع الإنسان أولاده ، لا يصغي لهم ، كلما تكلموا يسكتهم ـ اسكت أنت لا تتكلم هنا ـ يجب أن تجعل ابنك يتكلم ، اجعله ينطلق بالحديث ، اجعله يتكلم كلاماً ضعيفاً سخيفاُ ، وأصغِ أنت له .
أخواننا الكرام التعليم من لا شيء يمنع العالِم من الاستهزاء بالسائل ، كثير من الآباء يستهزئ بسؤال ابنه ، استهزاؤه بسؤال ابنه يمنعه أن يسأله مرةً ثانية ، فإذا أنت مؤمن  ومطبّق للسنّة ، وسألك ابنك سؤالاً ـ ولو كان سخيفاً جداً ـ يجب أن تصغي له وأن تجيبـه باهتمام ، وأنا دائماً أقول هذه الكلمة ، أنا أقول للطلاب حتى لا يخجل من السؤال أقول : ليس العار أن تسأل العار أن تبقى جاهلاً ، ليس العار أن تخطئ العار أن تبقى مخطئاً ، إذا تكلمت بهذه الكلمة لأبنائك أو طلابك ، تشجعهم على أن يسألوا ، فسيسألك ، شجعه ولو كان سؤالاً سخيفاً ، كيف يتعلم إلا بهذه الطريقة ؟ بالسؤال ، السؤال مفتاح العلم ، نصف العلم أن تسأل . 




من آداب الحديث ، إقبال المتحدث على الجُلساء جميعاً ، أنا ألاحظ أحياناً إمّا مدرس أو متحدث في جلسة يحضرها عشرون شخصاً ، يجوز أن يكون شخصٌ على اليمين مهم أو طليق الّلسان ، أو عنده قدرة على جلب الانتبـاه ، تجد المتحدث جالساً ملتفتاً طوال الجلسة إلى شخصين أو ثلاثة وغافلاً عن الباقين ، هذا ليس من أدب الحديث لا بد من أن تمرَّ على كل الحاضرين مروراً بشكل مستمر ، لأن هذا المرور على كل الحاضرين اهتمامٌ بهم وهذا من فنّ الحديث .
  لذلك من أدب الحديث أن يقبلَ المتحدِّث بنظراته وتوجيهاته على الجلساء جميعاً حتى يشعر كل فردٍ منهم أنه يريده ويخصه ، دائماً انتبه وأنت تتكلم ، غرفة الاستقبال مليئة فإيّاك أن تهتم بشخص أو شخصين فقط .
المعلمون دون أن يشعروا يوجد عدد من الطلاّب المتفوقين يجلسون على اليمين تجد المعلم طوال الدرس ملتفتاً إليهم فقط وكأنّ الباقي ليسوا طلاباً عنده ، إهمال شديدّ ، وعندما يهمل المعلِّم طلاّبه يهملونه فيتشاغلون عنه ويتصايحون ، أما لو نظرَ نظرةً مستمرةً إلى كل هؤلاء شدّهم ، فالنظرة كأنَّها ربط كهربائي ، أحياناً يقولون لك : توجيه عن بعد ، بجهاز صغير يكون معك وتضعه أمام الجهاز فيتحرك الجهاز الآخر وذلك يسمّونه توجيهاً عن بعد ، فعندما تكون هناك نظرة شاملة لكل الجالسين هذه النظرة أصبحت توجيهاً عن بعد وبها ربطت الكل مع نفسك وهذا من آداب الكلام .
 (( كان عليه الصلاة والسلام ، يقبــل بوجهه وحديثه على شرِّ القوم يتألَّفه بذلك ، وكان يقبل بوجهه وحديثه عليّ حتى ظننت أني خيرُ القوم ـ هذه من عظمة رسول الله ، لا تجد إنساناً التقى معه إلا ظن أنه أقرب الناس إليه ـ فقلـت : يا رسول الله أنا خيرٌ أم أبو بكر ؟ قال : أبو بكر ، قلت : يا رسول الله أنا خيرٌ أم عمر ؟ قال : عمر ، قلت : يا رسول الله أنا خيرٌ أم عثمان ؟ قال : عثمان ، فلمّا سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صدَّ عني فوددت أني لم أكن سألته )).
[روى الطبراني بإسناد حسن عن عمروِ بن العاص ]
أي على أيٍّ من كان ، إذا تحدث أقبل على كل الجالسين ، ولو كان بعضهم شريراً يتألفه بذلك ، ومن شدّة إقبال رسول الله بوجهه وحديثه عليه ظن أنه خيرُ القوم أي أحسن صحابي . 
من عظمة رسول الله ، لا يوجد إنسان التقى معه إلا ظن أنه أقربُ النّاس إليه ، من شدة إقبال النبيّ يقبل عليه بوجهه حتى يظنّ نفسه أنه أحسن صحابي . 
الحديث له مغزى عميق ، أي كل إنسان يجلس أمامك عليه أن يظنّ أنه أقرب النّاس إليك ، لا بدَّ من الاهتمام إمّا بنظرةٍ حانية ، وجه طليق ، ابتسامة ، ترحيب ، أو سلام حار ، هذه هي السنّة ، فكيف يكون المجتمع متماسكاً وقوياً كالبنيان المرصوص ؟ بهذه الطريقة أي بالتآلف . 


       

من أدب الحديث أيضاً مباسطة الجلساء أثناء التحدث وبعده ، تعني المباسطة أن يكون الجو مرحاً ، جواً لطيفاً ، جواً غير كئيب ، غير جاد ، غير قاسٍ . 
 (( كان أبو الدرداء إذا حدَّث حديثاً تبسم ، فقلت ـ أي زوجته ـ : لا يقول النّاس إنك أحمق ـ أي بسبب تبسمك في كلامك ـ فقال أبو الدرداء : ما رأيتُ أو سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحدثُ حديثاً إلا تبسَّم ، فكان أبو الدرداء إذا حدَّث حديثاً تبسَّم اتباعاً لسنّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم )) .
[ أحمد عن أمِّ الدرداء رضي الله عنها]
 (( قلـت لجابرٍ بن سمرة رضي الله عنه ، أكنت تجالس رسول الله صلـّى الله عليه وسلّم ؟ فقال جابر : نعم كثيراً ، كان عليه الصلاة والسلام لا يقـوم مـن مصلاَّه الذي فيه يصلّي الصبح حتى تطلع الشمس فإذا طلعت قام ، وكانوا يتحدَّثون والنبيُّ جالس فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسَّمُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم )) .
[مسلمٌ عن سِماكِ بن حـرب]
أحياناً في عقد قران مثلاً يتكلم خطيب ، أيَّ خطيب يتكلم يوجد أنّاس تغمض عينيها ، لماذا إغماض العينين ؟ انظر إليّه وشجعه على كلامه هكذا يكون الأدب ، فالنبيّ كان يجلس مـع أصحابه ويستمع إلى حديثهم ، فإذا كان حديثاً يدعو إلى الضحك يبتسم ، ابتسامته لهم جبرٌ لخاطرهم ، ولو شيء لم يعجبك لكن الكل ضحك فأنت تبسَّم ولو مجاملة . 
أيها الأخوة أدب الحديث المقصود منه أدب الدعوة إلى الله ، فالحديث المجدي الذي ترقى به عند الله أن تدعوَ إلى الله ، أن تبين ، أن تفصل ، أن تقنع النّاس بأحقية هذا الدين ، بالكتاب الكريم ، بالحديث الصحيح .


       

بعض القواعد المتبعة في التأثير في الآخرين أولاً : جلب انتباههم ، أحياناً يكونون متشاغلين عنك لا بد من أن تجلب انتباههم ، العلماء قالوا : الحركة بأوسع معانيها تجلب الانتباه .
أحياناً تجد المعلم جالساً في مكان لا يغيره ، فلا يغير اتجاهه ولا حركة وجهه ، فهو جالس مثل الصنم هذا ممل ، لكن لو تحرّك حركة لطيفة كحركة اليد مثلاً أو حركة الرأس أو حركة العينين ، العينان تتحركان ، الرأس يتحرك ، الجسم يتحرك ، الحركة من شأنها أن تجلب الانتبـاه ، فالمتحدث اللبق لا بد من أن يتحرّك التحرك اللطيف المعتدل ، أحياناً تجد مدرساً يمشي ذهاباً وعودة فلا ينتبه إليه الطلاّب ، هذا غير معقول ، هذه ليست حركة معقولة ، الحركة الشديدة أصبحت كالنوّاس ، أو بندول الساعة ، يريد الطلاب متابعته وهو يتحرَّك ذهاباً وإياباً ثم دخل من بينهم ثم رجع مرّةً أخرى ، لا هذه حركة غير مقبولة ، أمّا لو تحرك متراً أو نصف المتر أو حرك يده ، حرك رأسه ، حرك عينيه ، فهذه الحركة اللطيفة تمدّهم بالحيوية . 
من أجل أن تجلب انتباه المستمعين ينبغي أن تستعين بالحركة ، الحركة المعتدلة ، المنوَّعة . 
الآن تستغربون ، الحركة تكون بتحريك الجسم والرأس والعينين واليدين ، وتحريك الصوت تلوينه ، الصوت الرتيب يدعو إلى النوم ، فإذا كان شخص نائماً عشر ساعات وقام بتشغيل مروحة كهرباء لها صوت رتيب فسوف ينام ، الآن أكثر حوادث السيّر من النوم تجد براداً ثمنه خمسة ملايين سقط في الوادي بسبب نوم السائق ، لماذا نام السائق ؟ لأن صوت المحرك رتيب ، ولو كان نائماً خمس ساعات أو عشر ساعات ، أي صوت رتيب يدعو إلى النوم . 
لذلك المتحدث ذو الصوت الرتيب يدعو المستمع إلى النوم ، إذاً أنت تحتاج إلى تلوين الصوت ، ترفع الصوت تارةً وتخفضه تارةً ، تجعل وقفات ـ أي سكون ـ تثير الانتباه ، الوقفة تثير ، رفع الصوت وخفضه يثير أيضاً ، التلوين والصمت المفاجئ والصمت الذكي هذا مما يلفت انتباه المستمعين . 
       

الآن الأسلوب ، يوجد أسلوب خبري ، ويوجد أسلوب إنشائي ، الخبري كلام تقريري ، أما الإنشائي أمر ، ونهي ، واستفهام ، وتمني ، وترجّي ، وحضّ ، ونداء ، فالسؤال كما ورد في الآية الكريمة :
﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) ﴾ 
( سورة النازعات : آية " 27 " )
فقد ورد في القرآن الكريم سؤال ، حوار ، تقرير ، تحليل ، فيجب أن تحرِّك الأسلوب بين الخبر والإنشاء ، والأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، والوصف والتحليل ، والسرد والنقد ، والقصَّة والمثل ، والتقرير والتصوير ، والترغيب والترهيب ، والحوار والحدث ، فهذه الحركة في الأسلوب تجلب الانتباه ، مرّة حوار ، مرة مثل ، مرة قصّة ، مرة تأكيد ، مرة تحليل ، مرة وصف ، مرة سرد ، مرة خبر ، مرة إنشاء ، تنوِّع أساليب المتكلِّم تجعل هناك حركة وجذباً للحديث .
هذا الكلام موجّه للآباء ، فالحقيقة أفضل شيء في التربية هو القصّة ، أحياناً تكون هناك قصّة نموذجيّة ، مثلاً اليوم كنت في جلسة قبل الحضور إلى الدرس ورويت قصّة وأنتم تعرفونها ولكنّها شديدة الوضوح ، أحد الأشخاص عليه زكاة ماله فرضاً عشرة آلاف وخمسمئة وثلاثين ليرة ، وله زوجةٌ صعبة للغاية فأقنعته بعدم دفع الزكاة ، فاستجاب لها ولم يدفع الزكاة ، وهو يملك مركبة فاصطدمت وقام بإصلاحها ، وكانت تكلفة إصلاح ما فيها من حديد وصاج ودهان ومصابيح إضاءة تبلغ عشرة آلاف وخمسمئة وثلاثين ليرة وهو مقدار ما عليه من الزكاة بالضبط ولم يدفعها ، فأحياناً تكون قصّة بسيطة أبلغ من محاضرة طويلة في الزكاة ، أي أنّه :
(( ما تلف مال في بر ولا بحر إلا بحبس الزكاة .))
[الطبراني في الأوسط عن عمر]
أحياناً تكون القصّة شديدة التأثير فيكون الجالس أمامك طفل صغيرٌ أو إنسانٌ بسيطٌ فتدخل معه في متاهات العقيدة ، ومتاهات الإيديولوجيّات ، والأدلّة والنظريّات ، فلو ذكرت له قصّة عن إنسان عندما تصدّق نما ماله ، وعندما اشتغل بالربا محق الله له ماله تكون هذه القصّة كافية ، أو عندما عفّت نفسه عن الحرام هيّأ الله له زواجاً ناجحاً ، فهذه القصَّة مؤثِّرة جداً .


المستمع الموجود أمامك هناك موضوعات تعنيه ، وموضوعات لا تعنيه ، فمن عدم توفيق المتكلّم أن يعالج موضوعات لا تعني المستمعين ، فمثلاً عَتق العبيد الآن هل هو موضوع مثير للحاضرين ، لأنّه لا يوجد عبيد ، ولا عتق للعبيد ، أو أنت جالس في حيّ غني وتتكلّم عن الصبر ، فما هذا الصبر الذي لا يعنيهم ؟ فالجماعة أغنياء وكلّ شيء ميسّر لديهم ، وكذلك مع الفقراء تكلّم عن الزكاة ، فليس من المعقول أن يدفعوا الزكاة ، أو مع التجّار وتتكلّم عن الأمور الثقافيّة معهم ، وإذا كنت مع المثقفين وتكلّمت عن التجارة فهذا الموضوع خارج اهتماماتهم ، فدائماً أنت كمتحدِّث لن تكون موفّقاً في الحديث إلا إذا اخترت وتكلّمت في موضوع يعني الحاضرين .
فالمستمع الذي يستمع إليك ما الذي يعنيه ؟ يعاني من قضيّة ، لذلك الاستعانة بالرغبات والحاجات ، فمثلاً انظر إلى شاب في مقتبل حياته وليس متزوِّجاً فما الموضوع الذي يعنيه ؟ يعنيه أن تقنعـه بأنّ طاعته لله عزَّ وجلَّ وعِفّته قبل الزواج أحد أسباب توفيق الله له بزواج ناجح ، وهذا الكلام حق ، وتوجد آيات وأحاديث تؤكِّد ذلك ، ولأنّه يحتاج إلى الزواج ، وهذا الزواج سبُلُه غير ميسّرة ، فإذا بيّنت له أنّ طاعة الله عزَّ وجلَّ والعفّة قبل الزواج والاستقامة على أمره هذه تيسِّر له سبل الزواج من باب التوفيق الإلهي لقول النبيّ : حقٌ على الله أن يُعين الشاب إذا طلب العفاف .
فهذا الموضوع يعني الشباب ، أما إذا جلست مع التجار فذكرت لهم أن الإنسان إذا أدّى زكاة ماله حفظ الله تعالى له المال ، وكل إنسان خائف على رأس ماله من التلف والضياع ، تغرق الباخرة المحمّلة ببضاعته ، فإذا ذكرت له أنّ أداء الزكاة يحفظ له المال طمأنته ، إذاً فأنت لا يمكن لك أن تؤثِّر في الآخرين إلا إذا عالجت موضوعات تعنيهم ، فإذا تكلَّمت إيّاك أن تطرح موضوعاً لا يعني الحاضرين ، الكلام يصبح لا معنى له إطلاقاً أنت في واد وهم في واد . 
كل فرد منا له رغبات وله حاجات مشروعة ، والإنسان حينما يستغل هذه الحاجات المشروعة فيوجه توجيهاً صحيحاً ينجح في الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ .


       

عندما يتحدث الإنسان عليه مزج القديم مع الحديث يكون هذا المزج مفيداً جداً ، أحياناً يكون كل الحديث عن القديم وهذا لا يجوز فأحياناً تجد خبراً له تأثير كبير ، فقد قرأت ذات مرّة خبراً في إحدى الجرائد أعجبني كثيراً وهو عن عصابات في الصين تقوم بخطف الفتيات في سنّ الزواج ، لماذا ؟ السبب هو تحديد النسل عندهم تحديد قسري فلا يسمح للأسرة الواحدة إلا بإنجاب طفلٍ واحدٍ ، وبحكم محبّة كل الشعوب للذكور لا للإناث ، فكلّما أنجبوا بنتاً يخنقونها إلى أن يأتي الصبيّ فيسجلوه في السجلات الرسميّة ، وبعد حين تفاجؤوا بقرى بأكملها كل سكانها من الذكور ، فنشأت عصابات لخطف الإناث ، فعندما يشرِّع الإنسان تجده يرتكب الحماقات الكبيرة جداً .
أحياناً تجد خبراً تقرؤه في جريدة تخرج منه بفائدة ، فقد قرأت مرّة في جريدة خليجيّة أنّه قد تم إعدام عشرين مليون رأس من الأغنام في أستراليا ، أطلقوا عليها الرصاص ودفنت في مدافن جماعيّة ، من أجل الحفاظ على سعر اللحم ، وهذه الشعوب التي تموت من الجوع في بنغلاديش والسودان وأفريقيا ، فإذا أردت أن تبيّن وحشيّة هذا الإنسان الكافر بالرغم من الدعاوى الكاذبة لحقوق الإنسان وحقوق الحيوان فاذكر هذا .
مرّة في أمريكا من أجل الحفاظ على البرتقال قاموا بوضع محاصيل وبكميّات كبيرة في أماكن مسوّرة لإتلافها ، فتسلل بعض الفقراء الزنوج من أسفل السور وقاموا بخطف بعض الثمار وأكلها ، فقاموا في العام التالي بتسميمها حتى الزنجي لا يأكل برتقالة دون دفع ثمنها ، هذه تبيّن وحشيّة الكافر فهو وحش في صورة إنسان .
أحياناً تقرأ الخبر ويكون مهماً جداً ، ذات مرّة ألقيت خطبة من على المنبر ثلاث خطب قرأتها في الصحف اليوميّة عن الإيدز ، شيء مثير ، مثلاً موظف كبير أرسلته الدولة في مهمّة للخارج وزلّت قدمه هناك ، وعاد محملاً بالهدايا ، بعد سنة زوجته الوفيّة أصيبت بالإيدز وابنتـه وكذلك هو ، والثلاثة الآن قد ماتوا ، وله ابنٌ أو بنتٌ أنجبه قبل السفر ما زال حياً ، وهي قصّة واقعيّة ، وقد ذكرت ثلاث قصص من هذا النوع .


       

أحياناً الإنسان يلتقط قصّة ذات تأثير بالغ ، فذكر كل شيء قديم يصبح الحديث مملاً ، أما أن تذكر القديم والحديث كخبر معاصر ـ كزلزال مثلاً ـ وحوله موعظة بالغة ، فقد قرأت ذات مرّة عن زلزالٍ وقع في المغرب في بلد تسمّى أغادير وهي مدينة ساحليّة ، مدينة السيّاح ، فيها نوادٍ للعراة ، وفيها أشياء مخيفة ، وفيها فندق شهير مكوّن من ثلاثين طابقاً ، فهذا الزلزال ابتلعه ، ولكن ليكون هذا الفندق شاهداً على دمار بلاد الفاسقين وعبرة للآخرين ظل الطابق الأخير ظاهراً فوق الأرض وعليه اسم الفندق وكأنّها شاهدة له ، فقد قال تعالى :
﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) ﴾ 
 ( سورة الأعراف : آية " 145 " )
أحياناً خبر مهم جداً تقرؤه وتستوعبه وتحدّث به الناس ، والقصد إحداث تأثير لدى المستمع فتنفِّره من هذه الحضارة الماديّة المبنيّة على الكفر والانحلال .
إذاً من الأساليب في التأثير مزج القديم مع الحديث ، فلا يكون الحديث كلّه عن القديم ، أحياناً آية معاصرة مثلاً كإعصار ضرب الساحل الشرقي لأمريكا وكانت الخسارة ثلاثين ملياراً من الدولارات ، فلا تتكبّر فالله أكبر ، من دون أي مشاكل عاقبهم الله فوراً ، أو مركبة فضائيّة أطلقوا عليها اسم المتحدّي وبعد إطلاقها بسبعين ثانية أصبحت كتلة من اللهب فمن تتحدّون ؟ بالرغم من المراجعة الدقيقة ، والعدّ التنازلي ، والاحتياطات المتخذة فكل جهاز يوجد منه اثنان ، وبعد سبعينَ ثانية أصبحت كتلة من لهب إنها المركبة (Challenger) . 


       

لذلك أحياناً القديم مع الحديث يعطي تأثيراً كبيراً ، فأنت لا تعيش خارج العصر ، أنت مع العصر ، مع معطياته ، مع فلسفته ، مع ثقافته ، مع أحداثه ، وتعيش بين مشاكل الناس ، همومهم ، أحزانهم ، أفراحهم ، لك رأي إيجابي في الموضوع فلست تعيش من وراء التاريخ ، فقد لاحظت أنّ الدعاة البعيدين عن العصر لا يؤثِّرون في الناس إطلاقاً ، فلذلك مزج القديم مع الحديث مهم للتأثير في الآخرين ، فانظر لقوله تعالى :
﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا (8) ﴾ 
 ( سورة النحل : آية " 8 " )
لو انتهت الآية عند هذا المقطع من الآية الكريمة : 
﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً (8) ﴾ 
 ( سورة النحل : آية " 8 " )
وأنت تركب طائرة حديثة أسرع من الصوت كطائرة الكونكورد التي تقطع المسافة ما بين لندن ونيويورك في أقلّ من ساعتين ، وأنت ترى سيّارة فخمة وقطاراً فخماً وتبلغ سرعته في الساعة الواحدة ثلاثمئة وخمسين كيلو متراً وتقرأ هذه الآية وقوله تعالى : 
﴿ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) ﴾ 
 ( سورة النحل : آية " 8 " )
كيف ربط الله عزَّ وجلَّ القديم مع الحديث ؟ فهذا كلام الله مغطىً ، فلو كان الكلام من محمد فما كان ليكمل الآية ، كان سيقول : 
﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً (8) ﴾ 
 ( سورة النحل : آية " 8 " )
ويتوقف ، لأنّ سيدنا محمد لا يعلم ما سيكون ، ولكنّ الله تعالى يعرف ما سيكون فقال : 
﴿ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) ﴾ 
 ( سورة النحل : آية " 8 " )




توجد نقطة دقيقة جداً فالله تعالى عندما وصف الأنبياء ماذا قال ؟ قال :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) ﴾
 ( سورة الفرقان : آية " 20 " )
ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق معنى ذلك أنّهم شاركوا الناس ، فمن يعيش في برج عاجي وبعيداً عن الناس لا يستطيع أن يخاطبهم بلغةٍ يفهمونها ، فأخطر شيء في الداعية أن يعيش في برج عاجي ، فإذا لم يعش مع الناس ، ومع مشكلاتهم ، ومع أحوالهم ، ويشعر بما يزعجهم وما يؤلمهم وما يفرحهم ، فهذه المعاناة والمشاركة فيها توفِّق إلى اختيار الأسلوب المناسب .
أحياناً يعاني أحد الأشخاص من شيء صعب أنت لا تعانيه فتحاسبه حساباً قد يخرج من جلده ، ولكنّك إذا عانيت ما يعانيه فتعطيه عذراً وتلتمس له العذر ، وإذا لم يكن الإنسان واقعياً فلن يجذب الناس إليه ، وهذا كلّه من أدب الحديث وهو أدبٌ ذو أهميّة كبرى .
الحديث العابر لا يحتاج إلى إعداد ، أما إذا كُلِّفت أن تلقي كلمة ، أن تُدلي برأي ، أن تقيم مناظرة ، أن تطرح موضوعاً ، أن تعالجه فلا بدَّ من أن تُعِدَّ له إعداداً جيّداً .


       

كلّ أخواننا الذين بدؤوا بالدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ لو فرضنا أنّك كنت بمجلسٍ ودُعيت إلى إلقاء كلمة فيجب عليك أن تعلم جيّداً ماذا ينبغي أن تقول من آيات ، وأحاديث ، وشواهد ، وأدلّة عقليّة نقليّة ، وهذه يجب أن تكون قبل هذه ، وهذا الدليل بعد الآية ، والآية بعد الدليل ، فإذا لم يكن لديك إعداد علمي جيد فلن تؤثر بالآخرين ، لأن الكلام المضطرب والارتجالي وغير المنظّم والعشوائي كأن تتكلّم عن كلّ ما يخطر في بالك فهذا لا يؤثِّر أبداً في الآخرين .
حدّثني شخص دخل إلى مسجد وحضر خطبة الجمعة أنّه قد قام بعدّ الموضوعات التي طرحها الخطيب من فوق المنبر فكانت ثمانيةً وعشرين موضوعاً ، فقد طرح موضوعاً ولكنّه لم يعالجه ، وكان كلّ شيء يخطر في باله يقوله ، لأنّ الموضوع ارتجالي ، الذي يرتجل كلاماً من دون إعداد فهو يحتقر الناس ، هذا الجالس أمامك ترك بيته وأتى إليك ليستمع منك ، والوقت ثمين فقد كان مع أولاده وأهله وجاء إليك ليستمع إلى كلام منظّم ، وكلام عميق ، ومصحوب بالأدلّة والشواهد ، ومعروض عرضاً جيّداً وبأفكارٍ عميقة ، فإذا لم تُعِدَّ الكلام جيداً فلن تنجح ولن تؤثّر في الآخرين ، الحديث المضطرب لا يصغى إليه ، الحديث غير المُعدّ ، غير المنظّم ، غير المدعَّم بالأدلّة والشواهد لا يصغى إليه .
هناك نقطة بالغة الأهميّة فإنّك لا تستطيع أن تؤثِّر في الآخرين وأن تتمثّل أدب الحديث إلا إذا اعتقدت الذكاء والنباهة في المستمعين ، فإذا اعتقدّت أنّهم ليسوا كذلك فإنّك لن تؤثِّر فيهم ، إذا لم تعتقد فيهم الذكاء والنباهة فستأتي بتفصيلات مملّة ، محاكمات ساذجة ، أفكار سخيفة ، أما إذا اعتقدت فيهم الذكاء والنباهة فستأتي بأفكار عميقة ، تختصر التفاصيل المملّة ، كلّما كان كلامك أكثر إيجازاً وتركيزاً وأكثر إثارة فستشِدّ الناس أكثر وتجذبهم إليك .


       

شيء آخر من حسن الحديث أن يمزج بفكاهةٍ أديبةٍ ذكيّة ، دائماً الفكاهة لها تأثيرٌ كبيرٌ جداً في ثنيّات الحديث ، وأحياناً ممكن أن تعبِّر عن أدقَّ الأفكار وعن أعمقها بفكاهة بسيطة ، أحياناً تجد شخصاً يريد من هذا الصانع الصغير الذي يعمل لديه أن يتحلّى بالذكاء والفطنة والفهم والبديهة ، وهذا ليس معقولاً ، فصاحب المحل يبلغ من العمر الخمسين أو الستين سنة وقد عركته الحياة ويملك خبرات متراكمة ودفع ثمناً باهظاً لها ، وينتظر من طفل صغير عمره لا يتجاوز العشرين عاماً أن يكون ذكياً ونبيهاً وفهيماً ، لو كان كذلك لجلس في مكانك ، ففي مثل هذا الموقف تحضرني طرفة :
دخل ملك ذات مرّة إلى بستان ليتفقّد رعيّته ، وكان صاحب البستان يملك حصاناً يدور حول بئرٍ وهو معصوب العينين لاستخراج الماء ، وعلّق في عنقه جلجُلاً ـ جرساً ـ وكان الملك ذكياً فسأل صاحب البستان : لمَ عصبت عينيه ؟ فقال له : لئلا يصاب بالدوار ، فقال له : ولمَ وضعت هذا الجُلجُل ؟ فقال له : حتى إذا توقّف عن الدوران أعرف ذلك ، وكان الملك كثير الذكاء فقال له : فإذا وقف وهزَّ رأسه ؟ فردَّ عليه قائلاً : وهل له عقلٌ كعقلك ؟! 
دائماً عندما يتواجد معك أشخاص لا تظن أنّ عقولهم مثل عقلك ، فإذا اعتقدت أن عقل الذي أمامك مثل عقلك فأنت إذاً لا تعرف شيئاً ، فهذا أقل منك في الخبرة ، فكل من طالب من حوله بأن يكونوا في أعلى درجات الذكاء والفهم والفطنة والبديهة والطلاقة فهو بذلك لا يفهم شيئاً ، فهذا الصغير خبرته محدودة ، أو يريد صهره أن يكون في نفس مستواه ، فأنت عندك بيت مرتّب وواسع وأنت في الستين من العمر وصهرك خرج جديداً للحياة ، يقول له : ألا تملك بيتاً ؟ يقول له : عندي ، فيقول له : كم تبلغ مساحته ؟ هذه المساحة لا تكفي ، انظر إلى نفسك عندما تزوّجت لم يكن لديك بيت ولا جدار من حائط ، فدائماً لا تقس الناس بنفسك ، وأعطِ كلّ إنسانٍ حجمه الحقيقي ـ قال الملك له : فإذا وقف وهزَّ رأسه ؟ فقال البستاني له : وهل له عقلٌ كعقلك ؟! ـ أحياناً تستطيع أن تعبِّر عن أعمق الأفكار الدقيقة وذلك بطرفة بسيطة .


       

هناك نقطة هامّة ، ما الذي يجعل الحديث غير مؤثِّرٍ ؟ قال : الجمود وعدم الحركة ، البعد عن حاجات المستمع ، عدم مزج القديم بالجديد ، الارتجال ، الإطناب الممل ، الإيجاز المخل ، عدم الوضوح ، عدم وجود الإثارة ، الوتيرة الواحدة ، التكرار ، المتكلِّم في واد والمستمع في واد فالموضوعات غير ذات أهميّة ، اللف والدوران ، التعميم ، السرعة في إصدار الأحكام ، المبالغة ، التهويل ، الحشو والتفصيل ، هذه كلُّها تجعل الحديث مملاً .
الحشو والتفاصيل سخيفة تُفهَم دون أن تذكر فألغها من حديثك ، ولو ذكرتها تجعل الحديث مملاً .
المبالغة والتهويل يضعف المصداقيّة في كلامك ، قال لي أحدهم عن طريق يبلغ عرضه ستّة كيلو مترات ، فقلت له : أتقصد طوله ؟ فقال لي : لا بل عرضه ، فهذا كلامٌ غير معقولٍ ، فعندما تبالغ فقد انتهيت عند الآخرين لذلك دائماً اجعل كلامك علمياً .
اللف والدوران بسبب غموض فكرة في ذهنك فتلف وتدور لتبيّنها ، فإذا كان هناك فكرة غامضة فلا تقلها ، أما إذا كانت الفكرة واضحة فتحدّث بها ، فاللف والدوران يصيب المستمع بالسأم والضجر .
المتكلِّم في واد والمستمع في واد معنى ذلك أنّك لم تختر موضوعاً يمس بشغف قلوب الحاضرين .
التكرار يدعو للسأم ، الوتيرة الواحدة في الصوت تدعو للسأم ، عدم وجود الإثارة في الحديث تدعو للسأم ، عدم الوضوح يدعو للسأم ، الإيجاز الممل يدعو للسأم ، الارتجال كذلك يدعو للسأم ، عدم مزج القديم بالحديث ، البعد عن حاجات المستمع ، الجمود .
هذه كلُّها صفات تسيء للحديث ، وقد دمجنا فيما بين آداب الحديث وبين عوامل التأثير في الحديث .




كان درسنا اليوم آداب الحديث كما وردت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، والعوامل التي تجعل من الحديث مؤثِّراً ، فإذا جلس الإنسان مع أولاده ، أو أراد أن يلقي كلمة ، أو يدير حواراً ، أو أن يوجِّه وأن يدعو إلى الله عزَّ وجلَّ يستخدم هذه القواعد في حديثه .
الأنبياء بماذا جاؤوا ؟ جاؤوا بالكلمة ، فالدعوة أساسها الكلمة ، يجوز المهندس أساس عمله مواد البناء من اسمنت وحديد وغيرها ، والمعمل أساس عمله المواد الأوليّة من قوالب وخلافه ، ولكن الداعية أساس عمله الكلمة ، فإذا أحسن انتقاء الكلمة ونظمها وإلقاءها فقد أثَّر بالحاضرين ، فأنت تعاملك مع الكلمة ، والكلمة لها قوّة التأثير ، وقد جاء الأنبياء بالكلمة ، بكلمةٍ من عند الله عزَّ وجلَّ .
كل إنسان يحب أن يدعو إلى الله عزَّ وجلَّ ولا أعتقد بوجود أحد من الأخوة الحاضرين معنا لا يطمح أن يدعو إلى الله لأنّ هذا أعظم عمل فقد قال تعالى :
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) ﴾ 
( سورة فصلت : آية " 33 " )
حتى يلهمك الله عزَّ وجلَّ الصواب استعن بهذه الآداب النبويّة التي وردت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، واستعن بهذه القواعد الفنيّة في جذب اهتمام المستمعين وإحداث التأثير القويّ فيهم عن طريق هذه القواعد .


والحمد لله رب العالمين




اترك تعليقك

    Powered By Blogger