بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على
سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
أيها الأخوة الكرام لازلنا في سلسة تربية
الأولاد في الإسلام ، ولا زلنا في القسم الثاني منها ، ولقد أنهينا في الدروس
السابقة بفضل الله عز وجل الوسائل الفعالة في تربية الأولاد من القدوة الصالحة ،
إلى التعويد والتلقين ، إلى الملاحظة ، إلى العقوبة ، إلى الوعظ والإرشاد .
ها نحن ننتقل إلى صفات المربي ، ننطلق من قاعدة
تربوية أساسية أن فاقد الشيء لا يعطيه ، لا تنتظر أن يكون المتعلم على خلق إن لم
يكن هذا الخلق موجوداً عند المعلم ، لذلك نبدأ بصفات المربي الأب ، أو المعلم ، أو
من تصدى لتربية الأجيال ، ينبغي أن يعلم علم اليقين أن نجاحه في عمله لا يتحقق إلا
إذا كان متصفاً بصفات أساسية ، منها الإخلاص .
حينما يخلص المعلم أو الأب في تربية ابنه أو
تلميذه فالله سبحانه وتعالى يلهمه الأساليب الفعالة ، يجب أن تعتقد دائماً أن
الإنسان ضعيف ، وفقير ، وجاهل ، لكن إذا استعان بالله ألهمه الله رشده وصوابه ، ما
من إنسان نجح في تربية أولاده ، وما من معلم نجح في تربية تلاميذه ، وما من شيخ
نجح في تربية أخوانه إلا لأنه أخلص في خدمتهم ، ثمن إخلاصه أن الله يلهمه الصواب .
الله عز وجل قد يؤتي الحكمة ، وقد يعلمك كيف
تؤثر بمن حولك ، وقد يعطي لكلامك قوة تأثير لا يعلم سببها ، نحن أحياناً نجد إنساناً
لا يملك وسائل تربية ، لكن تقواه وصلاحه وإخلاصه لله ألهمه الله رشده .
ثمة قصة لا أستطيع أن أذكر تفاصيلها ، لكن إنساناً
يعمل في أقل عمل تتصوره ، ينقل الرمل والأسمنت على ظهره ، وهو غير متعلم ، مر أمام
مسجد ، وسمع درس علم ، فطرب له ، تمنى أن يحوز شريطاً لهذا الدرس ، فلما حاز هذا
الشريط كأنه ملك الدنيا ، بدأ يسمعه ، ثم حاز بعض الأشرطة ، هو يعمل حيناً في
لبنان ، ثم ينتقل إلى بلده في أقصى الشمال الشرقي من بلدنا ، بدأ يدعو إلى الله
بحسب ما سمع ، واستمر في الدعوة ، فإذا لفيف كبير حوله ، وإذا به يُلهم أساليب
ناجحة جداً في تربية من حوله ، ثم بدأ يقطف ثمار هذه الدعوة ، طبعاً على مدى سنوات
عديدة ، قد تقترب من عشر سنوات ، مرة التقيت به ، وأصغيت إلى قوله ، وإلى أساليبه
في الدعوة ، والله الشيء الذي لا يكاد يصدق أن الأساليب التي ألهمها يفتقر إليها
كبار الدعاة ، ثم طلب العلم ، وطلب العلم ، وهو الآن على مشارف التخرج من مدرسة
تعلم العلم الشرعي .
أنت حينما تخلص تأتيك طاقات كبيرة جداً ، في
الأساس لا تملكها ، لكن هذه الطاقات التي مكنك الله منها ، والتي زودك الله بها هي
إكرام إلهي لإخلاصك الشديد ، لذلك أول صفة من صفات المربي أن يخلص ، القاضي إذا
أخلص يلهم الصواب ، المعلم إذا أخلص يلهم الصواب ، الطبيب إذا أخلص يلهم تشخيص
الداء التشخيص الصحيح ، ثم وصف الدواء الجيد ، المحامي إذا أخلص ، أخذ الحق من
الظالم ، يُلهم المرافعة التي تقنع القاضي ، هذه قاعدة من أجلّ القواعد ، أنك إذا
أخلصت كان الله معك ، إذا أخلصت ألهمك رشدك ، إذا أخلصت منحك الحكمة ، إذا أخلصت
أعطاك الوسائل الفعالة لتحقيق أهدافك ، هذا كلام عام ، إذا أخلصت في الكسب الحلال
يلهمك الله الأساليب الفعالة في كسب المال الحلال ، إذا أخلصت في أن تحصن نفسك من
الحرام ألهمك الله أساليب كسب المال ، وأساليب اختيار الزوجة ، فإذا أنت بعد حين
حققت المراد الذي كنت تسعى إليه .
أيها الأخوة قال تعالى :
﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ (5) ﴾
(
سورة البينة الآية : 5 )
بالمناسبة أحد كبار العلماء يقول : " العمل
لا يقبل إلا إذا كان خالصاً وصواباً ، خالصاً ما ابتغي به الله ، وصواباً ما
وافق السنة " ، وكلاهما شرط لازم غير كافٍ ، يعني أنت لا يمكن أن يقبل عملك إلا
إذا جاء وفق السنة كما إنه لا يقبل عملك إلا إذا كان مخلصاً ، إن أخلصت ولم يكن
عملك وفق السنة لم يقبل العمل ، وإن جاء عملك وفق السنة ولم تكن مخلصاً لم يقبل
العمل ، لذلك قال تعالى في بعض أدعية القرآن الكريم :
﴿ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ ﴾
( سورة النمل الآية :
19 )
العمل الصالح الذي طلبه النبي الكريم مقيد بأن
يرضى الله عنه .
﴿ فَمَنْ
كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ
بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) ﴾
(
سورة الكهف )
أيها الأخوة الإخلاص هذا بينك وبين الله ، لا
يطلع عليه أحد من أهل الأرض ، لكن العمل إذا رافقه الإخلاص يقبل كثيره وقليله ،
والعمل إن لم يرافقه الإخلاص لا يقبل لا قليله ولا كثيره ، درهم أنفق في إخلاص خير
من مئة ألف درهم أنفق في رياء .
سمعت أن إنساناً صلى أربعين عاماً في الصف الأول
في صلاة الفجر وراء الإمام ، وفي يوم سها ، فتألم ألماً شديداً ، وقال : ماذا يقول
الناس عني ؟ انتبه ، ماذا يقول الناس عني ؟ معنى ذلك أن هذه الصلوات في المسجد ليس
فيها إخلاص ، الهدف أن يكسب مكانة فيمن حوله .
1ـ أول علامات الإخلاص أن يكون
عملك في السر كما في العلانية :
ليس غريباً أن تعلموا أن علامة الإخلاص ألا
يختلف عملك في السر والعلانية ، عملك في خلوتك كعملك في جلوتك ، إتقان عبادتك في
خلوتك كإتقان عبادتك في جلوتك .
من علامة الإخلاص أن العمل الذي تعمله لا يزداد
بالمدح ، كما أنه لا ينقص بالذم ، إذا كنت مخلصاً فلا يزداد العمل الصالح بالمدح ،
كما أنه لا ينقص بالذم ، المدح والذم لا يؤثران في عملك لأنك تبتغي وجه الله ، ولا
يختلف العمل لا في الخلوة ولا في الجلوة ، يبقى كما هو .
2ـ عدم ازدياد
العمل بالثناء وعدم نقصانه بالذم :
العلامة الأولى عملك في السر كما في العلانية ،
في العلانية كما في السر ، لا يختلف العمل بين السر والعلانية ، بين الجلوة
والخلوة ، كما أن العمل لا يتأثر بالمديح ، ولا يتأثر بالذنب ، إذاً أنت مخلص .
3ـ حينما تكون
مخلصاً فعملك الذي يرفع إلى الله يعود من الله ثوابه سكينة في قلبك :
الشيء الآخر أنك إذا كنت مخلصاً حقيقةً ، فهذا
الإخلاص يتيح لك أن تقبل على الله ، إقبالك على الله يعني أن الله سيتجلى عليك ،
لذلك المخلص كأنه قبض أجرته ، سعيد ، أما الذي يعمل أعمالاً صالحة ويقول : يا أخي
الناس لا يتأثرون ، الناس ما فيهم خير ، لا يشكرون ، معنى ذلك أنك تنتظر شكرهم ،
وتنتظر ثناءهم ومديحهم ، كما قلت : حينما تكون مخلصاً فعملك الذي يرفع إلى الله
يعود من الله ثوابه ، والثواب : من ثاب أي رجع ، ماذا يرجع من الله إذا رفع العمل
إليه ؟ يرجع سكينة في قلبك ، هذه علامة الإخلاص .
إذاً عدم تأثر العمل بين السر والعلانية ، عدم
ازدياد العمل بالثناء ، وعدم نقصانه بالذم ، شعور الإنسان المخلص أنه قبض أجرته من
الله ، لذلك لا ينتظر ثناء أحد ، ولا مديح أحد ، ولا يعلق كبير أهمية على ذم الناس
له ، فمن عرف نفسه ما ضرته مقالة الناس به .
الحقيقة الصفة الثانية : التقوى أي طاعة الله ،
إخلاص وطاعة ، كما يقول العلماء الربانيون : ألا يراك الله حيث نهاك ، وألا يفتقدك
حيث أمرك ، أنت عند الأمر والنهي ، أنت وقاف عند كتاب الله .
يروى أن حواراً جرى بين سيدنا عمر بن الخطاب
وأبي بن كعب عن التقوى ، فقال له : أما سلكت طريقاً ذا شوك ؟ قال : بلى ، قال :
فما عملت ؟ قال : شمرت ، واجتهدت ، قال : كذلك التقوى .
من توهم أن الطريق إلى الله طريق مفروش
بالرياحين والزهور فهو مخطئ ، الطريق إلى الله طريق محفوف بالمكاره ، طريق القمم
طريق صعبة .
((
أَلَا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ
بِرَبْوَةٍ ، ثَلَاثاً ، أَلَا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ
)).
[أحمد عن ابن عباس]
سميت طاعة الله تكليفاً ، لأن التكليف ذو كلفة :
((أَلَا إِنَّ
عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ ، ثَلَاثاً ، أَلَا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ
سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ )) .
الاسترخاء ، وأن تعطي نفسك ما تريد وما تشتهي ،
هو طريق النار ، عمل النار سهل بسهوة ، وعمل الجنة حزن بربوة ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ ،
وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ،
فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي
إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ )).
[
مسلم عن أبي سعيد ]
مرة افتتح مسجد في بعض أطراف دمشق ، ودعي إليه
علماء دمشق ، وألقوا كلمات رائعة في هذا الحفل ، وتناولوا الطعام ، وخرجنا من هذا
، في الضفة الثانية من الطريق ملهى ـ والعياذ بالله ـ فيه كل أنواع الموبقات ،
مسجد في طرف ، وملهى في طرف ، الذي أسس الملهى مات بعد أسبوع من افتتاحه ، والذي
أسس المسجد استقبل هؤلاء المدعوين ووجهه كله بشر ، أنا خرجت من الحفل قلت : سبحان
الله ! لو وقف هذان الرجلان أمام الله عز وجل ، الأول أراد إفساد الناس وحملهم على
الزنا والخمر والموبقات ، والثاني أراد تعريف الناس بالله من خلال هذا البيت
العظيم الذي بناه لله .
أحيانا تجد قارئ قرآن توفي وقراءته تملأ
الخافقين ، ومغنِّياً توفي وأغانيه تملأ الخافقين ، وكلاهما ميت ، فلذلك :
(( إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ
عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ ؛ إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ
يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ )).
[ أخرجه
مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
هذا الذي له عمل صالح عند الموت ينقطع عمله فما
قولكم بالذي ليس له عمل إطلاقاً ؟ سبحان الله ! في القرآن الكريم آيات دقيقة قال
تعالى :
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) ﴾
(
سورة الملك )
أحياناً نجري امتحاناً من أجل أن نعرف الناجحين
من الراسبين ، هناك رسوب ونجاح ، لكن لو أن الطلاب جميعاً ناجحون ، الامتحان مهمته
أن نعرف المتفوقين ، أن نعرف التفوق ، فدائماً وأبداً ينبغي أن يكون التفوق هو
الأصل ، كل هذا الكون مخلوق من أجل الإنسان ، فما خلق الله هذا الكون من أجل أن
ترسب أو تنجح ، من أجل أن تتفوق .
بالمناسبة لأنك إنسان أنت متفوق ، والدليل حينما
قال الله عز وجل :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا
الْإِنسَانُ ﴾
(
سورة الأحزاب الآية : 72 )
أيْ إن الإنسان قبل حمل الأمانة ، إذاً ميزه
الله ، فلما قبل حمل الأمانة سخر الله له السماوات والأرض ، لماذا الإنسان متفوق ؟
لأنه بإمكانه أن يعصي الله فلم يعصه ، لماذا يثاب الصادق ؟ لأنه بإمكانه أن يكذب
فلم يكذب ، لماذا يثاب الأمين ؟ لأنه بإمكانه أن يخون فلم يخن ، لماذا يثاب العفيف
؟ لأنه بإمكانه أن يزني فلم يزنِ ينقلنا هذا إلى موضوع الأمانة .
إذا وضعت مئة ألف عند إنسان ، وكتب لك إيصالاً
دقيقاً ، هذا المبلغ ليس أمانة ، هذا إيداع ، لأن الذي أعطاك هذا الإيصال يمكن أن
تقاضيه ، لو شاهدت عليه شاهدين ، أما حينما يعطيك مئة ألف ، ولا يأخذ منك إيصالاً
، وأنت بإمكانك أن تعطيه أو لا تعطيه ، فأعطيته ، أنت إذاً أمين ، هذه الأمانة ،
أنت مخير ، الآن بإمكانك أن تأتي إلى ملهى أو إلى مسجد ، بإمكانك أن تصلي أو لا
تصلي ، بإمكانك أن تغض البصر أو أن تطلق البصر ، بإمكانك أن تطلب العلم أو تطلب
الجهل :
(( سُئِلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ
أَكْثَرَ مَا يُدْخِلُ النّاسَ الْجَنّةَ ، قالَ : تَقْوَى الله ، وَحُسْنُ
الْخُلُقِ )).
[
رواه الترمذي عن أَبِي هُرَيْرَةَ]
أكبر سببٍ لدخول الجنة طاعة الله وحسن الخلق ،
قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم :
(( إذَا خَطَبَ
إلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ ، فَزَوّجُوهُ )).
[
رواه الترمذي عن أَبِي هُرَيْرَةَ]
طاعة الله وحسن الخلق ، والحديث الصحيح عن أبي
ذرّ ومعاذ رضي اللّه عنهما عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال :
(( اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُما كُنْتَ ، وأتْبعِ
السَّيِّئَةَ الحَسَنَة تَمْحُها ، وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ )).
[
رواه الترمذي عن أبي ذرّ ومعاذ رضي اللّه عنهما]
إذاً تقوى الله هي معين المعلم ، الأب المستقيم
هو أب مربٍّ ناجح ، لأن استقامته دعوة ، المعلم المستقيم استقامته دعوة ، معه
وسائل النجاح ، إذاً الإخلاص والاستقامة ، هذان الشيئان الأساسيان في نجاح العلمية
التعليمية والتربوية .
قال عليه الصلاة والسلام :
(( اتقوا الله ، واعدلوا
بين أولادكم كما تحبون أن يبروكم )).
[
رواه الطبراني عن النعمان بن البشير رضي الله عنه]
الأب العادل له مكانة ، أما إذا انحاز إلى أحد
أولاده ، أو انحاز إلى ولد من زوجة دون ولد من زوجة أخرى سقطت مكانته ، العدل أساس
الملك .
رئيس جمهورية فرنسا حينما انتخب ، خطب أقصر خطاب
في تاريخ فرنسا ، قال : أنا أشكر من انتخبني ، وأحترم من لم ينتخبني ، وأنا لكل
الفرنسيين ، دقق في هذه الكلمة ، هو أب لكل الناس .
أنت كمعلم أنت لكل الطلاب ، فإذا انحزت إلى
مجموعة طلاب معينة ، لعلاقات معينة ، لانتماءات معينة ، لأسباب معينة ، للطلاب
الأغنياء فرضاً ، للطلاب الأذكياء ، إذا انحزت لهم أنت فقدت العدالة ، وحينما
تفقدها تفقد قوة التأثير ، أما حينما ترعى كل الأولاد وكل الطلاب ، بصرف النظر عن
مستوياتهم الاجتماعية ، وعن مستوياتهم الاقتصادية ، وعن انتماءاتهم ، وعن
اتجاهاتهم ، ترعاهم جميعاً لك مكانة كبيرة .
يروى أن النبي الكريم وقف في جنازة ، فقيل : هو
يهودي يا رسول الله ، قال : أليس إنساناً ؟ معنى ذلك أن الإنسان أي إنسان ينبغي أن
تحترمه .
دخلنا في التفاصيل : معلم مع طلاب متفوقين ،
عينه عليهم ، اهتمامه لهم ، ابتسامته لهم ، يقرأ وظائفهم ، يثني عليهم ، يهش لهم ،
يبش لهم ، والطلاب الضعاف مهملون يُعرِض عنهم ، عنيف معهم ، قاسٍ عليهم ، هذا ليس
مربياً ، هو الطالب الجيد لا يحتاج إلى كبير عناية ، من هذا الذي يحتاج إلى كبير
عناية الطالب السيئ ، الابن الناجح لا يحتاج إلى عناية بالغة ، بطولة الأب
والمعلم لا في الابن الناجح ، بل في الابن المقصر .
أيها الأخوة الكرام الصفة الأولى هي الإخلاص ، الصفة
الثانية التقوى والصلاح والاستقامة والعدل والإنصاف والرحمة واللطف وغيرها .
الصفة الثالثة هي العلم ، أنت حينما لا تكون
متمكناً من العلم ، إن تكلمت خطأً ، والذين تحدثهم أقل منك علماً ضحكت عليهم ، وإن
كانوا أكثر يقظة ضحكوا عليك ، إن لم تكن متمكناً من العلم لا تنجح في تربية من
حولك .
أيها الأخوة الكرام التمكن من العلم أساسي جداً
، يروى أن بعض العارفين أخطأ في كلمة في درس ، فغاب سبع سنين حتى تمكن من العلم
الذي أخطأ فيه ، العلم ما فيه حل وسط ، العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ،
فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً ، لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ، فإذا أعطيته
بعضك لم يعطك شيئاً ، بالتعليم ، الأب غير متعلم ، أحياناً الابن يكذب عليه ، أما
الأب المتعلم واليقظ الابن يخشى أن يكذب عليه .
حدثني إنسان عن ابن يدرس في أوروبا ، فبعث إلى
أهله أنه نجح بتفوق ، فرحوا وهنأ بعضهم بعضاً ، عنده أخ له إمكانيات كشف الكذب ،
فتح موقع الجامعة بالإنترنت ، وطلب الكلية ، وطلب أسماء الناجين فلم يكن أخوه مع
الناجحين ، فالطالب يكذب ، إذا كان في الإنسان سذاجة أو بساطة ، والذي يتولى أمره
كذب عليه ، ضعفت مكانته ، أما كلام سيدنا عمر رائع : " لست بالخبّ ، ولا
الخبُّ يخدعني " .
المعلم ينبغي ألا يكون من الخبث حيث يَخدع ،
وألا يكون من السذاجة حيث يُخدع ، الأب كذلك والمعلم كذلك ، والآية الكريمة :
﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾
(
سورة المجادلة الآية : 11 )
أخواننا الكرام عليكم بالإخلاص والتقوى والعلم ،
قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم :
(( مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمسُ فِيِه عِلْماً
سَهّلَ الله لَهُ طَرِيقاً إِلَى الْجَنّةِ ، وَإِنّ المَلاَئِكَةَ لتَضَعُ
أَجْنَحِتَهَا رِضًى لِطَالِبِ العِلْمِ
)).
[
رواه الترمذي عن أَبي هُرَيْرَةَ]
الشيء المألوف أن تتعلم وأن تعلم ، وهذه فريضة
عين على كل إنسان ، قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم :
((
بَلّغُوا عَنّي وَلَوْ آيَةً )).
[ رواه
الترمذي عن عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو]
تعلمت شيئاً من درس علمه لمن حولك ، لأن هذا
الوهم أنني لا أستطيع أن أتكلم كلمة حتى أتقن العلم ، لا ، إذا سمعت معنى آية ، أو
معنى حديث ، أو قضية إشراقية في الإسلام واستوعبتها وفهمتها انقلها إلى الآخرين ، اطلب
العلم وتعلم ، ودائماً الإنسان يتعلم ويعلم .
(( ألاَ إِنّ الدّنْيَا مَلْعُونَةٌ ، مَلْعُونٌ
مَا فِيهَا ، إِلاّ ذِكْرُ الله ، وَمَا وَالاَهُ ، وَعَالِمٌ
، أَو مُتَعَلّمٌ )).
[
رواه الترمذي عن أَبي هُرَيْرَةَ]
(( مَنْ خَرَجَ في طَلَبِ الْعِلْمِ كان في سَبِيلِ
الله حَتّى يَرْجِعَ )).
[ رواه الترمذي
عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ]
(( طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ
مُسْلِمٍ )).
[أخرجه ابن ماجه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]
أيها الأخوة الكرام مع الإخلاص ، ومع التقوى ،
ومع العلم يوجد الحلم ، وكاد الحليم أن يكون نبياً ، المربي والمعلم والأب إذا كان
غضوباً وقاسياً في كلماته لا يستطيع أن يربي أولاده ، كما لا يستطيع المعلم أن
يربي تلاميذه ، قال تعالى :
﴿ وَالْكَاظِمِينَ
الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) ﴾
(
سورة آل عمران )
قال تعالى :
﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ
عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) ﴾
(سورة
الأعراف)
وقال أيضاً :
﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ
عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) ﴾
(
سورة فصلت )
(( إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا
اللَّهُ : الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ )).
[الترمذي عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ]
أوصى النبي بعض أصحابه ألا نغضب :
(( لَيْسَ
الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ
الْغَضَبِ )).
[متفق عليه عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
(( يَسِّرُوا ، وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا
، وَلَا تُنَفِّرُوا )).
[متفق عليه وعَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]
(( يَا عَائِشَةُ ، إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ
الرِّفْقَ ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا
لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ )).
[مسلم عَنْ
عَائِشَةَ]
((
إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ
إِلَّا زَانَهُ ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ )).
[مسلم عَنْ
عَائِشَةَ]
كاد الحليم أن يكون نبياً ، والحلم سيد الأخلاق
، والصبر عند الصدمة الأولى .
آخر شيء من صفات المربي فضلاً عن إخلاصه ،
وفضلاً عن طاعته لله ، وفضلاً عن علمه ، وفضلاً عن حلمه ، ينبغي أن يشعر
بالمسؤولية ، لأن الله سوف يسأله عن هؤلاء الصغار ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( ... وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ
مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا
وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا ... )).
[ البخاري عن عبد الله بن عمر ]
يقول علي رضي الله عنه : "علموا
أولادكم وأهليكم الخير وأدبوهم ."
(( ما نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدًا من نَحْلٍ أفضل من أدبٍ حَسَنٍ )).
[الترمذي عن سعيد بن العاص]
(( إن الله
سائل كل راعٍ عما استرعاه : حفظ أم ضيع ؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته .))
[ابن حبان عن أنس رضي الله عنه]
إذا لم يلقح الأب ابنه وأصاب ابنه مرض عضال سوف
يسأل ، الأبوة مسؤولية ، تلقيح الأولاد ، العناية بصحتهم ، أخذهم إلى طبيب مثلاً ،
متابعة العلاج ، هذا من مهمات الأب .
أيها الأخوة الكرام فاقد الشيء لا يعطيه ، إن
أردت أن تكون أباً ناجحاً ، أو معلماً ناجحاً ، أو موجهاً ناجحاً لا بد من أن تجمع
الإخلاص ، والطاعة لله ، والعلم ، والحلم ، واستشعار المسؤولية ، هذه صفات تؤهل
المربي ، وتؤهل المعلم ، والأب ، ومن يدعو إلى الله عز وجل ، كي يدع بصمات واضحة
في نفوس أخوانه وتلاميذه وأولاده وأصحابه .
والحمد
لله رب العالمين